كتبتُ قبل عدة أشهر أن الوقوف العالمي ضد ما يجري لأهل غزة قد يثمر ما يمكن وصفه بـ"حلف فضول عالمي"، يتشكل عبر تكاتف الإنسانية في مواجهة الظلم والقتل.
وفي هذا السياق يأتي "أسطول الصمود"، وما تبعه من ردود أفعال تجاه التصدي له ومنعه من الوصول. فالمظاهرات العارمة التي شهدتها عدة عواصم أوروبية تؤكد ما أتحدث عنه؛ إذ لم تعد القضية متصلة بالسياسة بقدر ما ارتبطت بالضمير الإنساني الحي.
وقد أسميته "حلف الفضول" استدعاء لذلك الحلف الذي نشأ في لحظة جاهلية متأخرة أدركها النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- قبيل البعثة، وقال عنه: "لو دُعيت به في الإسلام لأجبت".
ومن الطريف أن الجاهلية – رغم ما فيها – واجهت معضلة الإصلاح الاجتماعي، فاستجابت عبر حلف الفضول لحماية النظام الاجتماعي من التداعي. واليوم، نحن جميعا بحاجة إلى مثل هذا الحلف للتوصل إلى الحد الأدنى من القيم الأخلاقية المتفق عليها.
لا شك أن الباعث الثاني هو الإحساس بأخوّة الإنسانية. فالعامل المشترك بين الناس، حين يتجاوزون المطامع والمصالح، هو شعورهم بالتساوي في حق الحياة الكريمة وحق الاختلاف
فـ"أسطول الصمود" بتركيبته المتنوعة والمتعددة، وبما جسّده أفراده من تضامن مع قضية لا تربطهم بها إلا وشيجة الإنسانية، يمثل فرصة كبيرة لدراسة الفطرة الإنسانية في تجلياتها المختلفة.
لدينا اليوم فرصة لفهم دوافع البشر نحو السلوك الأخلاقي والالتزام القيمي. وهذا لا يعني تقليل قيمة الدين كباعث للفعل الأخلاقي، بل يؤكد أيضا أن الأخلاق في ذاتها تمثل باعثا قائما. فالدين أصل الإلزام، والثواب والعقاب الأخروي، وهو محفّز أساسي للأخلاق وملزم بها.
غير أن البواعث النفسية والفطرية تلعب دورا كبيرا حتى في غياب الدين، فالإحساس بالظلم غريزة مركوزة في النفس الإنسانية.
ومن هنا تظهر ظاهرة "الوازع الفطري" أو "الساعي الضميري" التي أشار إليها حذيفة- رضي الله عنه- بقوله: "ما كنت أبالي لو بايعت مؤمنا فسيرده إيمانه، وإن لم يكن مؤمنا فسيرده ساعيه". فهنا تبرز قيمة القيم ذاتها ووضوحها في النفوس على اختلاف تمثيلاتها في الثقافات.
وهو ما أشار إليه شيخ الإسلام ابن تيمية في إحدى رسائله، حين ذكر أن مفهوم الدين عند جميع البشر يتضمن الحث على الوفاء والصدق والأمانة ورعاية الحقوق، وأن هذا مركوز في النفوس على اختلافها.
ولا شك أن الباعث الثاني هو الإحساس بأخوّة الإنسانية. فالعامل المشترك بين الناس، حين يتجاوزون المطامع والمصالح، هو شعورهم بالتساوي في حق الحياة الكريمة وحق الاختلاف. وهنا يبرز حديث جديد حول قيمة التنوع والتعارف، كما أشارت إليهما ثقافتنا الإسلامية وعززتهما.
أما الباعث الثالث الخفي، فهو ظاهرة ما وراء الحداثة. إذ يدور الحديث اليوم عن تجاوز النسبية التي بشّرت بها ما بعد الحداثة، وصولا إلى "التجاور" والقبول بالآخر في سياق معين.
وكان أبرز عوامل ذلك، الانفتاح الذي تحقق منذ 15 عاما عبر وسائل التواصل الاجتماعي والهواتف الذكية والإعلام الجديد، الذي كسر حراس البوابات التقليديين وغيّر كثيرا من نظريات الاتصال المعتادة.
يبقى أن يتبلور "حلف الفضول" في أفق أعمق من البحث الأخلاقي، بحيث يضع الفطرة ضمن مصادر الأخلاق لا ضمن إلزامها، ويعيد الاعتبار للإنسانية كمعيار في خطابنا عند مخاطبة الآخر والتعامل معه
وعلى المستوى الاجتماعي، فإن الظمأ للروحانية والقيم العليا يدفع الكثيرين في الغرب إلى كسر الطوق المادي، والسعي وراء ما يشبع النزوع إلى الفردوسية والمثالية.
ومن هنا يصبح الانخراط في القضايا الإنسانية إشباعا نفسيا، يجيب عن سؤال الجدوى من الوجود، ويمنح الإنسان قيمة أكبر أمام نفسه أولا. وهذا بدوره يولّد ظواهر البحث عن القداسة في أنماط غير دينية، وقد يؤدي في جانب آخر إلى تقبّل الدين ذاته.
وهو ما رأيناه في تفاعل البعض مع الأذان على متن "أسطول الصمود"، وما حدث أيضا حين دفعت أحداث غزة كثيرين إلى طرح أسئلة وجودية عميقة، قادت بعضهم إلى دراسة القرآن الكريم والاهتمام به، رغبة في فهم سر صمود أهل غزة وثباتهم.
وفي ضوء هذه البواعث جميعا يمكن أن نجيب عن سؤال: لماذا هذا التعاطف؟ ولماذا جاءت ردة الفعل بهذه القوة؟
يبقى أن يتبلور "حلف الفضول" في أفق أعمق من البحث الأخلاقي، بحيث يضع الفطرة ضمن مصادر الأخلاق لا ضمن إلزامها، ويعيد الاعتبار للإنسانية كمعيار في خطابنا الديني والإعلامي عند مخاطبة الآخر والتعامل معه، لبناء تحالف يعزز قيم الفطرة، ويهتم بها، ويمنح الحياة المعاصرة أفقا أرحب للعيش والأمل.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

