"الانتصار في الحرب العالمية الثانية هو بداية التجديد العظيم للأمة الصينية".. بهذه الجملة التاريخية لا يصف الرئيس شي جين بينغ نقطة التحول الرئيسية لبلاده فحسب، بل يضع حدودا بحجم سور الصين في خيال وقرار كل من يفكر -على أي مستوى- في مواجهة التنين الذي لا يمكن لأحد إيقافه حتى في المستقبل القريب، وذلك على حد قوله في العرض العسكري المهيب يوم 3 سبتمبر/أيلول 2025، بمناسبة مرور 80 عاما على نهاية الحرب العالمية الثانية.
لم يكن التأكيد على استمرار تجدد الصين حاضرا فقط في مظاهر الاحتفال الكبير، وفي الكلمات القوية للرئيس، بل تجلى حتى في ظهوره مجددا بالبدلة الماوية للزعيم التاريخي السابق ماو تسي تونغ، فيما يُعرف بزي اللحظات الاستثنائية، الذي يُستدعى من دولاب الماضي في أوقات الاضطرابات الجيوسياسية المحيطة بالصين اليوم.
في عام 2020، صدر للثنائي الأميركي ماثيو كلاين ومايكل بيتس كتاب بعنوان "Trade Wars Are Class Wars"؛ يرى فيه المؤلفان باختصار أن الحروب التجارية بين الدول ما هي إلا صراعات طبقية بين النخب الرأسمالية العالمية
خلال السنوات العشر الماضية، أتقن الرئيس شي فنون الرسائل الرمزية للبذلة الماوية في مناسبات هامة؛ أبرزها الذكرى السبعون لنهاية الحرب العالمية الثانية عام 2015، والذكرى السبعون لتأسيس جمهورية الصين عام 2019، والذكرى المئوية لتأسيس الحزب الشيوعي عام 2021، بالإضافة إلى الاجتماعات الوطنية الهامة.
مؤكدا بذلك على معاني الهوية والشرعية والوحدة والانضباط والتكاتف الثوري في البلاد.
لكن، ما هي التحديات الجيوسياسية الملحة التي أعادت بذلة ماو إلى الواجهة؟ ربما يدور العنوان الكبير حاليا حول الحروب التجارية الأميركية ضد أغلب دول العالم، وعلى رأسها- وفي القلب منها- الصين.. فهل هناك من رابط فعلا؟ وهل الأمر يستحق ذلك رغم انحسار طلقات الرسوم الجمركية الأميركية مؤقتا؟ دعونا نفند ذلك في النقاط التالية:
أولا
في عام 2020، صدر للثنائي الأميركي ماثيو كلاين ومايكل بيتس كتاب بعنوان "Trade Wars Are Class Wars"؛ يرى فيه المؤلفان باختصار أن الحروب التجارية بين الدول ما هي إلا صراعات طبقية بين النخب الرأسمالية العالمية.
فبعد أن ضمنت تلك النخب، المتحدة مع حكوماتها في كل دولة، تبعية وطاعة أسواقها الداخلية؛ صارت تتنازع دوليا على وسائل الإنتاج وفوائض القيمة في أسواق العالم الخارجية.
شواهد الواقع تقول إن الرئيس شي يوازن ويجمع بين رمزية ماو السياسية فقط، وما تلاها من إصلاحات اقتصادية قوية للرئيس الراحل دينغ شياو بينغ، وبين تجربة "شي" نفسه في التعامل مع معطيات العصر
ثانيا
يرى الكتاب أن كل نخبة رأسمالية اخترعت نموذجا خاصا بها:
- الصين: بأسعار الفائدة والأجور المنخفضة، ضبطت استهلاك الأسر ورفعت المدخرات ووجهت غالبية الإنتاج للتصدير، مما راكم فائضا هائلا في الحساب الجاري للبلاد.
- الولايات المتحدة: على العكس، يقوم النموذج الأميركي على استهلاك قوي ودَين بلا سقف، وهو ما جعلها تعاني عجزا تجاريا مزمنا مع أغلب دول العالم.
- أوروبا: يتأرجح نموذجها بتنوعه شمالا على الطريقة الصينية، وجنوبا بأزمات أميركية.
ثالثا
بالعودة إلى بذلة "ماو" في أحدث ظهور لها على الرئيس شي، فإن رسائلها الاقتصادية التاريخية وحدها كانت سلبية للداخل الصيني أكثر منها للخارج؛ فعصر "ماو" بعقوده الثلاثة لم يفلح -لا بقبضته الحديدية، ولا بشعارات الخطط الخمسية المتتالية- إلا في تراكم رأس المال والسلطة لصالح نخبة الطبقة الحاكمة من رجال الأعمال والقادة العسكريين، ومضاعفة تراكم إجمالي الدخل القومي "وهميا" في الصين أواخر الخمسينيات، وما تبعه من فساد كبير وفقر واسع أثقل كواهل الشعب.
لكن شواهد الواقع تقول إن الرئيس شي يوازن ويجمع بين رمزية ماو السياسية فقط، وما تلاها من إصلاحات اقتصادية قوية للرئيس الراحل دينغ شياو بينغ، وبين تجربة "شي" نفسه في التعامل مع معطيات العصر الحالي.
وهو ما يؤكد حيوية التجديد في الصين اليوم، لكنه -في جوهره- تجديد عظيم فعلا في شكل وحجم وأداء النخبة الرأسمالية الحاكمة بالبلاد.
في الصين، القطاع المالي يلعب دورا خدميا بامتياز تحت سيطرة الدولة، ولا يشكل رسميا سوى 5% فقط من الناتج المحلي الإجمالي، كما أن القيمة السوقية لأسواق المال لا تتجاوز 70% من حجم الاقتصاد
رابعا
العجيب أن أغلب البيانات تكشف عن إحصائية واحدة للنخب الرأسمالية في كل من الصين والولايات المتحدة الأميركية؛ فأغنى 1% فقط من الأسر يمتلكون نحو ثلث ثروات البلاد.
- القاسم المشترك: الثروة العقارية.
- الاختلاف الواضح: مصادر إنتاج الثروة ودور القطاع المالي فيها.
في الاقتصاد الأميركي -بأسواقه "الحرة" المزعومة- يُعد القطاع المالي المحرك الأول والأساسي، حيث يشكل رسميا نحو 8% من الناتج المحلي الإجمالي، ويتضاعف تأثيره أكثر من ذلك بكثير. والدليل أن القيمة السوقية لأسواق المال بالولايات المتحدة تصل إلى نحو 180% من حجم الاقتصاد الأميركي.
أما في الصين، فالقطاع المالي يلعب دورا خدميا بامتياز تحت سيطرة الدولة، ولا يشكل رسميا سوى 5% فقط من الناتج المحلي الإجمالي، كما أن القيمة السوقية لأسواق المال لا تتجاوز 70% من حجم الاقتصاد. هناك إذن هوس أقل بالأرباح الرأسمالية، وانشغال مزمن بتمويل خطط التنمية الداخلية والتوسع الخارجي في أنشطة إنتاجية حقيقية.
ختاما
رسائل بذلة الزعيم في العيد الثمانين تقول إن الأمر أكبر من حرب تجارية عابرة، وتؤكد أن النخبة الرأسمالية في الصين مستعدة جيدا للحفاظ على نموذجها الخاص، الذي تحاول نظيرتها الأميركية التأثير عليه وتغييره لصالحها، في ظل صراع طبقي عظيم بين الطرفين للسيطرة على وسائل الإنتاج وفوائض القيمة حول العالم.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

