في ذاكرة آسيا، هناك جرحان يسيران جنبا إلى جنب، لا يفصل بينهما سوى خطوط على الخريطة، وسنوات على التقويم..
الجرح الأول وُسم باسم الهند، حين وقعت تحت قبضة الاستعمار البريطاني، فنُهبت ثرواتها، وسُحقت صناعاتها، وجاع شعبها حتى الموت، وأُطفئت مواهب أبنائها تحت ظلال الإمبراطورية.
والجرح الثاني وُسم باسم فلسطين، حين سُلبت الأرض، وهُدِمت البيوت، وزُرعت على أنقاضها مستوطنات مسلحة، وحوصر شعبها في سجن مفتوح اسمه "الاحتلال".
الهند تعرف هذا الألم جيدا، هي لم تقرأه في الكتب، بل عاشته في عظامها ودمها، وعرفت كيف يسرق المستعمر الخبز من فم الطفل، وكيف تتحول المدن العامرة إلى أطلال، وكيف تُكسر إرادة الشعوب تحت غطاء القوانين الاستعمارية.
لهذا، حين تنظر العيون الهندية إلى غزة لا ترى حربا بعيدة، بل ترى انعكاسا لما حدث بالأمس، ترى نفسها، وترى كيف تغيرت الرايات، لكن العقلية الاستعمارية لم تتغير.
لقد جربت الهند كل وجوه الاستعمار: سرقة الثروات، وتفكيك النسيج الاجتماعي، وفرض الجوع على الملايين، وإهانة الهوية الوطنية. والفلسطينيون اليوم يعيشون نسخة مضاعفة من ذلك
ذاكرة مشتركة من الألم
عندما نالت الهند استقلالها عام 1947 بعد نضال طويل ودماء غزيرة، كانت فلسطين في اللحظة نفسها تدخل حقبة جديدة من المأساة.. في حين كان الهنود يحتفلون برحيل المستعمر، كان الفلسطينيون يودعون وطنا يتمزق أمام أعينهم.
هذا التزامن التاريخي خلق رابطا وجدانيا عميقا، وشعورا بأن المعركة لم تنتهِ، بل انتقلت من ساحات الهند، وميادين أفريقيا، وأحياء أميركا اللاتينية، وضمائر الشعوب في كل القارات، إلى جوار القدس وشوارع غزة.
لقد جربت الهند كل وجوه الاستعمار: سرقة الثروات، وتفكيك النسيج الاجتماعي، وفرض الجوع على الملايين، وإهانة الهوية الوطنية.
والفلسطينيون اليوم يعيشون نسخة مضاعفة من ذلك، ولكن بآلة عسكرية أشد فتكا، ودعم دولي يمنح الاحتلال حصانة من العقاب.
جذور التضامن الهندي
منذ لحظة الاستقلال، كان دعم فلسطين جزءا ثابتا من السياسة الخارجية الهندية؛ فقد رأى جواهر لال نهرو أن نضال الفلسطينيين جزء من المعركة العالمية ضد الاستعمار، واعتبر أن الحرية لا تكتمل ما دامت شعوب أخرى ترزح تحت الاحتلال.
وحافظت الهند لعقود على هذا المبدأ، فاعترفت بدولة فلسطين، ودافعت عنها في الأمم المتحدة، وأقامت معها علاقات دبلوماسية قوية.. لم يكن الأمر مجرد موقف سياسي، بل امتدادا لوعي شعبي واسع يرى فلسطين مرآة للهند في زمن الاحتلال البريطاني.
تغير الرياح السياسية
لكن السياسة لا تبقى على حال.. مع تغير الحكومات، وبروز تحالفات مع الغرب وإسرائيل، ومع تصاعد هيمنة أفكار هندوتفا بين الشعب والسياسيين، بدأت النبرة الرسمية تتبدل، وآراء العامة تتحول، وصارت بعض الخطابات أكثر برودا تجاه القضية الفلسطينية، حتى وهي تواجه أعنف هجمة في تاريخها الحديث.
رغم ذلك، لم يخفت الصوت الشعبي في الجامعات والحركات الطلابية والمجتمع المدني، بل ظل حاضرا بقوة، يرفع العلم الفلسطيني في المظاهرات، ويذكّر بأن التاريخ لا يصدأ.
هذه ليست قصة فلسطين وحدها.. إنها قصة كل شعب عرف طعم القيود، وكل إنسان يرفض أن يورّث الأجيال القادمة إرثا من القيود، ويأبى أن يقف خجولا حين تسأله الأجيال: ماذا فعلتم حين وقعت؟
صوت يرفض الصمت
وسط هذه التحولات، تظهر أصوات من داخل الهند ترفض الصمت، وتدين الجرائم بحق الفلسطينيين بلا مواربة.. أصوات تصف ما يحدث في غزة بأنه إبادة جماعية، وتتحدث عن عشرات الآلاف من الشهداء، بينهم آلاف الأطفال، وعن مدن مدمرة بالكامل، ومجاعة تُفرض عمدا كسلاح حرب.
شاهدنا في يوليو/ تموز 2024 كيف حول دانانجاي بالاكريشنان، أحد خريجي معهد التكنولوجيا في مدراس (IIT)، حفل تخرجه إلى منصة تضامن مع غزة، واصفا ما يجري هناك بأنه "إبادة جماعية".
في كلمته، أدان تورط شركات التكنولوجيا الكبرى في دعم العدوان، مؤكدا أن المعرفة لا تكون بريئة إذا أُسيء استخدامها لقمع الشعوب.. كان صوته امتدادا لخط نضالي يرى في فلسطين مرآة لتجربة الهند ضد الاستعمار، ويؤمن بأن السكوت أمام الظلم هو تواطؤ.
لم يتوقف الأمر عند هذا الطالب، بل استمرت مبادرات التضامن في جامعات ومؤسسات هندية عدة، حيث نُظمت ندوات، ورُفعت لافتات، وأُطلقت حملات إلكترونية تفضح جرائم الاحتلال، وتدعو لمقاطعة الشركات المتورطة في دعمه.
وفي أروقة السياسة، أرسلت بريانكا غاندي فادرا، القيادية في حزب المؤتمر، رسائل دعم صريحة عبر أفعال رمزية، أثارت جدلا واسعا.
فقد ظهرت في البرلمان وهي تحمل حقيبة كُتب عليها "Palestine"، وزُينت برمز البطيخ، في إشارة إلى الهوية الفلسطينية.. تعرضت لانتقادات شديدة من خصومها، لكنها ردت بحزم: "لن أسمح لأحد بأن يقول لي ماذا ألبس"!
كذلك، أدانت بريانكا غاندي فادرا مقتل صحفيي الجزيرة، واصفة ذلك بأنه "جريمة بشعة ضد إنسانية فلسطين".. دعمها الحزب، واعتبر هجوم السفير الإسرائيلي عليها "غير دبلوماسي"، واعتداء على حرية التعبير.
وعندما يرد بعض المسؤولين الإسرائيليين بنفي هذه الحقائق، وتكرار الرواية الرسمية التي تحمل المقاومة الفلسطينية مسؤولية كل الضحايا، يرى كثير من الهنود في ذلك صدى لخطاب الاستعمار القديم الذي عرفوه: خطاب يبرر القتل باسم "النظام" و"الأمن"، ويتجاهل أن الاحتلال نفسه هو أصل كل مأساة.
إذا كان المستعمر بالأمس قد رحل عن الهند وأفريقيا وغيرهما، فقد ترك أدواته وأفكاره تتجول في أماكن أخرى من العالم في ملابس مختلفة، وشعارات متنوعة، وسياسات خفية
القضية التي تعبر القارات
اليوم، هذه ليست قصة فلسطين وحدها.. إنها قصة كل شعب عرف طعم القيود، وكل إنسان يرفض أن يورّث الأجيال القادمة إرثا من القيود، ويأبى أن يقف خجولا حين تسأله الأجيال: ماذا فعلتم حين وقعت؟
إذا كان المستعمر بالأمس قد رحل عن الهند وأفريقيا وغيرهما، فقد ترك أدواته وأفكاره تتجول في أماكن أخرى من العالم في ملابس مختلفة، وشعارات متنوعة، وسياسات خفية.
واليوم، تلك الأدوات تهاجم أهل غزة، تزرع الخوف في قلوب الأطفال والكبار، وتحاصر الخبز والدواء والماء.. ما بين أنيابها ليس غزة وحدها، بل إن الإنسانية كلها تُساق إليها بأساليب مختلفة. وبذلك لا يمكن أن نقول: "هذا شأن بعيد"؛ لأن الاستعمار لا يعرف البُعد.. الظلم، أينما وُجد، هو جرح في جسد الإنسانية كلها.
التاريخ يكتب الآن، والصفحات لم تُغلق بعد، والسؤال هو: أنكون على هامشه متفرجين، أم نكون من الذين رفعوا أصواتهم وقالوا: "كفى.. الحرية حق للجميع"؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
