سوريا اليوم تقف في قلب واحدة من أكثر اللحظات التاريخية حرجًا في تاريخها الحديث، مرحلة انتفاض شعبها ضد نظامٍ تجذّر في القمع والاستبداد، مستترًا خلف شعارات المقاومة والممانعة لعقود.
الثورة السورية، التي اشتعلت على أرضٍ مثخنة بالهموم، ليست فقط معركة السوريين لاستعادة كرامتهم المسلوبة، بل هي أيضًا لحظة مفصلية لتفكيك إرث الطغيان الذي حوّل سوريا إلى سجن كبير. ومع ذلك، هناك من يسعى لتحميل الثورة السورية مسؤولياتٍ تتجاوز طاقتها، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، التي لطالما كانت ضحيةً لمزايدات هذا النظام.
لا يمكن لأحد أن ينكر الترابط التاريخي والوجداني بين القضية الفلسطينية وسوريا. لكن في الوقت الراهن، الحديث عن فلسطين كأولوية ضمن معركة السوريين ضد الطغيان يبدو وكأنه محاولة للالتفاف على جوهر الثورة.
كيف يمكن لسوريا، المثقلة بجراحها النازفة، أن تكون سندًا لقضيةٍ استغلها نظام الأسد لتكريس سلطته، بينما كان الفلسطينيون أنفسهم من ضحاياه؟ كيف يمكن لمن حاصر مخيم اليرموك حتى الجوع، ومن امتلأت سجونه بشباب فلسطينيين، أن يكون خيرًا لفلسطين أو نصيرًا لها؟
الثورة السورية، التي بدأت كصرخة شعب ضد استبداد نظام بشار الأسد، أصبحت محور نقاشات لا تنتهي حول مسؤولياتها وأولوياتها، ومن بين هذه النقاشات يبرز الحديث عن علاقتها بالقضية الفلسطينية، التي طالما كانت من الشعارات الكبرى للنظام السوري
سوريا والثورة: بين مسؤولية التحرر وأعباء القضية الفلسطينية
في كل منعطف من تاريخ العالم العربي الحديث، كانت سوريا حاضرة، إما كفاعل أو كضحية لصراعات أكبر من حدودها. واليوم، ومنذ اشتعال الثورة السورية عام 2011، يبدو أن سوريا أصبحت ساحة صراع شديدة التعقيد، ليس فقط داخليًّا بل على مستوى إقليمي ودولي.
الثورة السورية، التي بدأت كصرخة شعب ضد استبداد نظام بشار الأسد، أصبحت محور نقاشات لا تنتهي حول مسؤولياتها وأولوياتها، ومن بين هذه النقاشات يبرز الحديث عن علاقتها بالقضية الفلسطينية، التي طالما كانت أحد الشعارات الكبرى للنظام السوري. لكن هل كان النظام السوري حقًا نصيرًا لفلسطين؟ وهل يمكن تحميل الثورة السورية مسؤولية قضية فلسطين في وقت تناضل فيه لتحرير نفسها؟
سوريا وفلسطين: تاريخ الشعارات والمواقف
منذ تأسيسه في عام 1970، استخدم نظام حافظ الأسد القضية الفلسطينية كأداة لتعزيز شرعيته الإقليمية. لم يكن الأمر مجرد دعم سياسي أو عسكري للفصائل الفلسطينية، بل كان إستراتيجية محكمة لتثبيت حكمه، وتوسيع نفوذه الإقليمي، وتحت شعار "المقاومة والممانعة" روج النظام نفسه كحامٍ للقضية الفلسطينية، بينما كانت ممارساته الحقيقية تناقض هذا الشعار تمامًا.
1976: مجازر تل الزعتر
في أحد أكثر الفصول المظلمة في تاريخ العلاقة بين النظام السوري والفلسطينيين، تورط الجيش السوري في حصار مخيم تل الزعتر في لبنان. المخيم، الذي كان يؤوي آلاف اللاجئين الفلسطينيين، تعرض لهجوم شرس من قبل مليشيات يمينية لبنانية بدعم واضح من الجيش السوري، وأُخضع لحصار أسفر عن مقتل الآلاف من الفلسطينيين، ليكشف عن الوجه الحقيقي لنظامٍ لم يتردد في استخدام الفلسطينيين كورقة تفاوضية في حرب لبنان.
1983: الانشقاق الفلسطيني في طرابلس
في مرحلة لاحقة، دعم النظام السوري الانشقاقات داخل منظمة التحرير الفلسطينية، خاصة الفصائل التي عارضت قيادة ياسر عرفات. التدخل السوري في لبنان خلال تلك الفترة كان بهدف الهيمنة على القرار الفلسطيني، وليس دعمه. وثائق عديدة ظهرت لاحقًا تشير إلى دعم النظام لفصائل مسلحة لضرب الوحدة الفلسطينية، واستغلال القضية لصالح أجندته.
حقيقة الجولان والارتباط مع إسرائيل
العلاقة الغامضة بشأن هضبة الجولان المحتلة هي من بين أكثر القضايا حساسية في تاريخ النظام السوري. في يونيو/ حزيران 1967، خلال حرب الأيام الستة، احتلت إسرائيل الجولان السوري في وقت قياسي، وسط انسحاب غامض ومثير للشكوك من الجيش السوري. منذ ذلك الحين، لم يطلق النظام السوري رصاصة واحدة لاستعادة الجولان، رغم شعارات المقاومة.
في عام 1994، ظهرت وثائق سرية تشير إلى مفاوضات غير مباشرة بين النظام السوري وإسرائيل بوساطة أميركية. هذه المفاوضات، التي أُجريت في عهد حافظ الأسد، تضمنت مقترحات تتعلق بتطبيع العلاقات مقابل استعادة الجولان بشروط إسرائيلية، وهو ما يعكس بوضوح تراجع النظام عن شعاراته المعلنة.
وفي عام 2011، كشفت وثائق "ويكيليكس" تفاصيل إضافية عن اتصالات بين مسؤولين سوريين وإسرائيليين، تضمنت استعداد النظام السوري لتقديم تنازلات كبيرة مقابل ضمان استمراره في السلطة. هذه الوثائق ضربت مصداقية النظام في الصميم، وكشفت عن تناقض صارخ بين شعاراته وممارساته الحقيقية.
خلال سنوات الثورة، حاول النظام السوري ترويج سردية، مفادها أن سقوطه سيؤدي إلى زعزعة القضية الفلسطينية. هذا الخطاب استُخدم لتبرير القمع الوحشي، لكن الحقيقة أن الثورة السورية لم تكن ضد فلسطين، بل ضد نظام قمعي
حصار مخيم اليرموك
في عام 2012، فرض النظام السوري حصارًا خانقًا على مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين في دمشق، ما أدى إلى كارثة إنسانية غير مسبوقة. آلاف الفلسطينيين والسوريين في المخيم عانوا من الجوع والمرض، بينما استمرت آلة القتل في عملها، والنظام الذي ادعى دائمًا حماية الفلسطينيين لم يتردد في استخدامهم كرهائن في حربه ضد الشعب السوري.
التضامن مع النظام ومحاولات التبرير
خلال سنوات الثورة، حاول النظام السوري ترويج سردية، مفادها أن سقوطه سيؤدي إلى زعزعة القضية الفلسطينية. هذا الخطاب استُخدم لتبرير القمع الوحشي، لكن الحقيقة أن الثورة السورية لم تكن ضد فلسطين، بل ضد نظام قمعي استغل القضية الفلسطينية كوسيلة لتبرير استبداده.. الفلسطينيون في سوريا كانوا جزءًا من هذا النضال، وشاركوا في الثورة إلى جانب إخوانهم السوريين.
النظام السوري والقضية الفلسطينية: خديعة الممانعة
النظام السوري، منذ عقود، لم يكن أكثر من تاجرٍ في سوق الشعارات؛ رفع راية فلسطين كغطاءٍ لسياساته القمعية، مُصوّرًا نفسه كحامي حمى القضية، بينما كان الفلسطينيون داخل سوريا وخارجها يدفعون الثمن الأكبر. مخيمات اللاجئين، التي كانت شاهدة على التشريد والنكبة، تحوّلت إلى ميادين للحصار والقصف في ظل هذا النظام، كما حدث في اليرموك والتضامن ونهر البارد. وعشرات الآلاف من الفلسطينيين، إلى جانب إخوانهم السوريين، وجدوا أنفسهم بين جدران السجون، يتلقون التعذيب نفسه، ويواجهون المصير نفسه.
كيف يمكن للثورة السورية أن تُحمَّل مسؤولية نصرة قضيةٍ خانها النظام السوري مرارًا؟ الثورة اليوم تقف على خط النار، تواجه آلة القمع والاستبداد بكل ألوانها، ولا تملك رفاهية تجاوز حدود معركتها الأولى: التخلص من هذا النظام الذي صنع الكوارث باسم المقاومة.
الثورة السورية ليست ضد فلسطين
حين يقول البعض إن التخلص من نظام الأسد سيضعف قضية فلسطين، فإن هذا الحديث لا يحمل سوى السطحية والخوف من المجهول. سوريا الحرة، مهما كانت هوية من يحكمها بعد الأسد، لن تكون أكثر عداءً لفلسطين من نظامٍ أوصد أبواب مخيمات اللاجئين، وقايض قضيتهم في كل محفل دولي.
لا شك أن التخلص من نظام الأسد هو الخطوة الأولى نحو بناء سوريا جديدة، وسوريا الحرة ستكون بطبيعتها حليفًا حقيقيًّا لفلسطين، لأن الحرية تصنع عدالة جديدة
وسواء حكم سوريا شعبها الحر، أو الإسلاميون الذين يخشاهم البعض، فإن الحقيقة الواضحة هي أن أي بديل عن الأسد سيكون أكثر عدلًا وإنسانية، لأن أي حاكم قادم لن يحمل على كتفيه إرث الطغيان الذي بناه هذا النظام.
الثورة السورية ليست ضد فلسطين، بل هي معركة ضد نظامٍ استغل فلسطين كشعارٍ فارغ لتبرير استبداده. الشعب السوري، الذي عرف معنى النكبة والمأساة كما عرفه الفلسطينيون، لا يمكن أن يقف على الضفة الأخرى من قضيتهم. ولكن من يريد لسوريا أن تكون عونًا لفلسطين، عليه أن يدرك أن هذا لا يمكن أن يحدث في ظل نظامٍ يعادي حرية شعبه. الحرية لا تتجزأ، وحاكمٌ يقمع شعبه لا يمكن أن يكون حليفًا لقضية عادلة.
التخلص من نظام الأسد هو الخطوة الأولى نحو بناء سوريا جديدة
لا شك أن التخلص من نظام الأسد هو الخطوة الأولى نحو بناء سوريا جديدة، وسوريا الحرة ستكون بطبيعتها حليفًا حقيقيًّا لفلسطين، لأن الحرية تصنع عدالة جديدة. حين تستعيد سوريا نفسها، حين يتحرر شعبها من قيود الطغيان، سيبدأ بناء علاقات قائمة على القيم الحقيقية، وليس على الشعارات الزائفة. سوريا الجديدة، مهما كانت هوية من يحكمها، لن تحمل إرث الخيانة والدماء الذي طبع نظام الأسد.
القضية الفلسطينية لا تحتاج إلى نظامٍ يستغلها، بل تحتاج إلى شركاء صادقين. سوريا، حين تتحرر، ستكون حليفًا لفلسطين لأنها ستدرك معنى التحرر والعدالة، أما النظام الذي تاجر بفلسطين ليبرر قمعه، فهو الخطر الحقيقي الذي شوه القضية وأضعفها.
رسالة إلى الفلسطينيين والسوريين
إن المعركة التي يخوضها الشعب السوري اليوم ليست معركة فلسطينية، لكنها معركة تصب في النهاية في صالح كل الشعوب المقهورة. التخلص من الطغاة هو الخطوة الأولى نحو بناء عالم عربي جديد، عالم لا يستخدم فيه الحكام قضايا الأمة كذريعة للقمع. أما الفلسطينيون، فإنهم شركاء في الوجع، وحين تتحرر سوريا، فإن ذلك سيخلق فضاءً أوسع للحرية والتعاون.
الثورة السورية ليست عبئًا على القضية الفلسطينية، بل هي رسالة واضحة أن النضال من أجل الحرية لا يمكن أن يتوقف عند حدود واحدة. ومن يظن أن سوريا الحرة ستكون خطرًا على فلسطين، فهو لا يرى أن الحرية هي أول خطوة نحو نصرة أي قضية.
الطريق طويل، والحرية مكلفة، لكن الثورة السورية تثبت كل يوم أن الشعوب، مهما طال قمعها، ستنتصر في النهاية. وسوريا الجديدة، حين تنهض من تحت ركام الاستبداد، ستكون صوتًا جديدًا لفلسطين، صوتًا نابعًا من العدالة والكرامة، لا من الشعارات الجوفاء.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.