مع سقوط نظام الأسد في سوريا، تدخل المنطقة العربية لحظة تاريخية فارقة تستدعي التوقف والتأمل، ورغم أن سقوط نظام بهذا الثقل قد يشير إلى إمكانية التغيير، فإن غياب رؤية إصلاحية حقيقية قد يؤدي إلى موجة من التغيير لا تخلُ من العنف، كما شهدنا في بعض تجارب الربيع العربي.
هذا السيناريو المحتمل ينبع من الأزمات المتراكمة التي تعصف بالمنطقة: الفقر المتزايد، التضخم الخانق، غياب التداول السلمي للسلطة، واستمرارية هيمنة النخب الفاسدة على مقدرات الدول.
الفجوة بين الفقراء والأغنياء تهدد استقرار المجتمعات، وتحقيق العدالة الاجتماعية يبدأ بسياسات تعيد التوازن، وتخلق فرص عمل مستدامة
دروس من الربيع العربي
على مدى العقد الماضي، أثبتت حركة التاريخ أن تجاهل مطالب الشعوب لا يؤدي إلا إلى تعميق الأزمات.. الربيع العربي، الذي بدأ بشعارات تطالب بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، تحول في بعض الحالات إلى نزاعات دامية نتيجة غياب السلمية من قبل الحكومات، وانعدام المؤسسات الديمقراطية القادرة على إدارة التغيير.
في دول مثل تونس، ورغم النجاحات النسبية في بناء مؤسسات سياسية أكثر انفتاحًا، فإن الثورة المضادة وتباطؤ الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية لم يحققا التغيير الجذري المنشود. وهذا يؤكد أن بناء ديمقراطية حقيقية يحتاج إلى رؤية متكاملة تشمل العدالة الاجتماعية، والاستثمار في التنمية الاقتصادية المستدامة.
لحظة الاعتراف والمصالحة
اليوم، تقف الأنظمة العربية أمام فرصة تاريخية للابتعاد عن المسار السوري.. على القادة أن يدركوا أن استمرار الفقر والفساد والتفاوت في توزيع الثروة لن يؤدي إلا إلى تفجير موجات جديدة من الاحتجاجات الشعبية، ربما تكون أكثر عشوائية وأقل سلمية وأكثر كلفة. والحل يكمن في مبادرات حقيقية نحو:
- الإفراج عن المعتقلين السياسيين: إعادة بناء الثقة تبدأ بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، وتمكين حرية التعبير.
- إصلاح المؤسسات: تأسيس مؤسسات ديمقراطية تشاركية تعكس إرادة الشعوب، وتضمن وجود تداول سلمي للسلطة.
- توزيع عادل للثروة: الفجوة بين الفقراء والأغنياء تهدد استقرار المجتمعات، وتحقيق العدالة الاجتماعية يبدأ بسياسات تعيد التوازن، وتخلق فرص عمل مستدامة.
- تعزيز التحالف مع الشعوب: بدلًا من الاعتماد على قوى إقليمية أو دولية، يجب على الحكومات أن تبني شراكة حقيقية مع شعوبها، تقوم على الاحترام المتبادل والعمل لتحقيق أهداف مشتركة.
النموذج الأوروبي بعد الحرب العالمية الثانية يبرز كدرس ملهم: إدراك ضرورة التعاون والإصلاح قاد إلى بناء أنظمة ديمقراطية ومستقرة
شراكة مع مجموعة بريكس
في هذا السياق، يمكن للدول العربية تعزيز التعاون مع مجموعة "بريكس" (البرازيل، روسيا، الهند، الصين، وجنوب أفريقيا) كوسيلة لتحقيق التكامل الاقتصادي وتبادل المصالح. هذه المجموعة تمثل نموذجًا يحتذى به في تأسيس علاقات قائمة على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة، بعيدًا عن الهيمنة التقليدية للقوى الغربية.
التعاون مع "بريكس" يفتح فرصًا لتنويع الاقتصادات العربية من خلال شراكات تجارية واستثمارية إستراتيجية، وتطوير البنية التحتية، وتعزيز الابتكار التكنولوجي. هذا النوع من التعاون يُظهر أن احترام سيادة الدول والشعوب يمكن أن يكون أساسًا لبناء علاقات دولية قوية ومستدامة.
الاستفادة من حركة التاريخ
التاريخ يعلمنا أن الشعوب التي تُحرَم من حقوقها الأساسية ستجد دائمًا طريقها للتغيير، سواء بالسلم أو بالثورة. في مواجهة أزمات الفقر والتضخم والفساد، فإن تأخير التغيير السلمي يزيد من احتمالية حدوث تغيرات غير محسوبة العواقب.
النموذج الأوروبي بعد الحرب العالمية الثانية يبرز كدرس ملهم: إدراك ضرورة التعاون والإصلاح قاد إلى بناء أنظمة ديمقراطية ومستقرة. كما أن تجارب دول آسيوية مثل كوريا الجنوبية وسنغافورة أثبتت أن الاستثمار في البشر والمؤسسات يمكن أن يحول الأزمات إلى قصص نجاح.
الطريق واضح: الاستماع إلى مطالب الشعوب، وبناء مؤسسات ديمقراطية، وتحقيق العدالة الاجتماعية
الاختيار بين الأمل والهاوية
لا يزال أمام القادة العرب فرصة لتجنب السقوط في هاوية الفوضى والعنف.. الطريق واضح: الاستماع إلى مطالب الشعوب، وبناء مؤسسات ديمقراطية، وتحقيق العدالة الاجتماعية.
هذا ليس خيارًا ترفيهيًا، بل ضرورة وجودية لضمان مستقبل مستقر ومزدهر للمنطقة، والخيار اليوم هو بين البناء المشترك مع الشعوب وبين مواجهة قوى التغيير التي لن تنتظر طويلًا.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.