كيف يمكن استخدام السوشيال ميديا كأداة تُساهم في بناء استقرار الإنسان والمجتمع، بدلًا من أن تكون سببًا في قتل روح الإنسان والمجتمع؟
"كأنك تُعطي سيارة لشخص لم يتعلم القيادة، ولم يحصل على رخصة قيادة".. هكذا وصف الدكتور مهاتير محمد دخول المجتمعات العربية والشرقية إلى السوشيال ميديا، حيث أكد على أن السوشيال ميديا صناعة غربية، وأن المجتمعات المستوردة لهذه الأدوات تحتاج أن تصنع برامج تأهيل، وضبط للدخول إلى هذا العالم، لتأخذ دور القيادة فيه وليس الراكب!
في محاولة جادة لدراسة تأثير الإعلام الافتراضي الإيجابي والسلبي، وفي سؤال صعب ومثير في غياب المرجعية العلمية، كيف أصبح الإعلام الافتراضي، بلغته الركيكة وأدواته البسيطة ووراء الشاشة الصغيرة، يوجه الرأي العام، يهدم قِيمًا ويبني أخرى، يُعزز وصول أفراد ويُغيِّب آخرين؟
كيف أصبح هذا العالم الافتراضي القوي يؤثر على الفرد والأسرة والمجتمع، سواء إيجابيًا أو سلبيًا؟ ماذا لو تخلينا عن الإعلام المعتمد على نظم وقواعد وأدوات وحوكمة ومعايير إلى شاشة التواصل الافتراضي؟ هل فعلًا سنرى جنون العالم قد أصبح سائدًا بدون حدود؟ ماذا لو لم نضبط علاقتنا مع هذه الوسائل لتكون أداة بناء وارتقاء واستفادة لا أداة هدم؟
التعريف بوسائل التواصل الاجتماعي
مع التطور التكنولوجي وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي، تحول العالم إلى قرية صغيرة، وظهرت هذه الأدوات كأبرز أدوات التأثير والتغيير الاجتماعي والثقافي. لكن هذا التطور طرح إشكاليات كبيرة حول تأثير ديناميات السوشيال ميديا على الإنسان والمجتمع، بداية من الصحة النفسية وحرية التعبير، وصولًا إلى كيفية إعادة تشكيل هوية الإنسان والمجتمع.
للإجابة عن الأسئلة السابقة لا بد من محاولة فهم سياق الواقع بين الماضي والحاضر من خلال بعض الأسئلة:
كيف كان المجتمع قبل السوشيال ميديا؟ وكيف أصبح بعد ظهورها؟ وما هو الواقع الجديد الذي نعيشه الآن؟ كيف كان المجتمع قبل السوشيال ميديا؟
مع تزايد أعداد صناع المحتوى، لم تُخصص جهود كافية لتأهيلهم علميًا ومهنيًا واجتماعيًا، ما انعكس على جودة المحتوى المنشور، ومدى تناسبه مع ثقافة واحتياجات الجمهور
قبل ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، كانت المجتمعات تتسم بمحدودية في التواصل وضعف في حرية التعبير، حيث:
- غياب حرية التعبير: كان التعبير عن الآراء مقيدًا بسبب سيطرة وسائل الإعلام التقليدية مثل الصحف والتلفزيون، التي كانت تخضع غالبًا لسيطرة حكومية، أو مرجعية صاحب المؤسسة الإعلامية، ما حرم الأفراد من فرصة التعبير عن آرائهم بحرية.
- التواصل بين الناس محدود: تواصل الأفراد كان يعتمد بشكل كبير على اللقاءات المباشرة، الرسائل الورقية، أو الاتصالات الهاتفية، ما جعل انتشار المادة أو الخبر في إطار محدود.
كيف أصبح المجتمع بعد السوشيال ميديا؟
مع ظهور السوشيال ميديا، تغيرت معادلة التواصل والتعبير بشكل جذري، لكن هذا التغيير لم يخلُ من تحديات:
- انفجار في التعبير أدى إلى الفوضى: تحولت منصات السوشيال ميديا إلى مساحة مفتوحة للجميع للتعبير عن آرائهم، ما أدى إلى تدفق هائل في المعلومات والآراء، لكن بدون ضوابط واضحة، فتحولت في كثير من الأحيان إلى فوضى في كل شيء.
- غياب رقابة المؤسسات والقوانين: لم ترافق هذا التطور مؤسسات أو قوانين تضبط محتوى السوشيال ميديا، ما أدى إلى انتشار الأخبار الزائفة، وخطابات الكراهية، والمحتوى غير الأخلاقي، والاتهامات المباشرة.
- غياب تأهيل صناع المحتوى: المحتوى الهادف هو مجهود شخصي، وصنّاع المحتوى الذين نجحوا بالطرح الذي يتناسب مع قيم المجتمع، ويحمل رسالة حقيقية، ولدوا من رحم المجهود الشخصي أولًا، ثم حاجة المجتمع لهم، ولم يجدوا في معظم الأحيان مؤسسات حاضنة وداعمة لهم.
ومع تزايد أعداد صناع المحتوى، لم تُخصص جهود كافية لتأهيلهم علميًا ومهنيًا واجتماعيًا، ما انعكس على جودة المحتوى المنشور، ومدى تناسبه مع ثقافة واحتياجات الجمهور.
- غياب المتخصصين: العديد من المواضيع المعقدة تناقَش من قبل غير المتخصصين، ما يُسبب تشويه الحقائق وسوء الفهم، إضافة إلى انتشار كبير جدًا للتجارب الشخصية، التي لا يمكن اعتمادها كمصدر أساسي لحل ظواهر مجتمعية أو سياسية أو ثقافية معقدة.
عندما نتحدث عن العنف الأسري مثلًا، نحن نتحدث عن ظاهرة محورية في المجتمع، فهل يمكن أن نأخذ تجارب فردية كمرجعية للتعامل مع هذه الظاهرة؟. بغض النظر عن مدى نجاح أو عدم نجاح التجربة الشخصية، فإن الظواهر الاجتماعية تحتاج لمنهجية علمية قانونية ومجتمعية للتعامل معها، ولا يمكن حل مشاكل مجتمعية من خلال تجارب شخصية.
- الفجوة بين المادة العلمية وأسلوب العرض السريع: أصبح التفاعل مع المحتوى يعتمد على الصور والألوان والجاذبية البصرية، السرعة والخوارزميات ومعاييرها هي التي تُحدد إن كان المحتوى يستحق أن يصل أو لا، بعيدًا عن المعايير العلمية والاجتماعية والأخلاقية في كثير من الأحيان!
الواقع الجديد
في ظل هذا التشابك والعديد من الإشكاليات والمعضلات المفاهيمية، أصبح هذا الواقع الجديد يفرض علينا تحديات ومسؤوليات جماعية، تتطلب إعادة النظر في دور مواقع التواصل الاجتماعي في المجتمع، ووضع ضوابط كمحاولة لوضع لمسات في حوكمته، ومنها:
- المسؤولية المجتمعية ودور المؤسسات: تحتاج المجتمعات إلى تطوير أطر قانونية ومؤسسات تعمل على تأهيل صنّاع المحتوى، وتوفير برامج تدريبية تعزز من مهاراتهم، وتوجههم نحو تقديم محتوى ذي قيمة، يلبي احتياجات الجمهور، وتكون له قيمة مضافة، ولا سيما للأجيال الجديدة.
- توعية الجمهور: وذلك من خلال برامج وورش عمل، وصناعة محتوى يهدف إلى توعية المشاهد بالمحتوى ومصداقيته ونوعيته، وحماية البيانات وآمن المعلومات، والتعرف على برامج المراقبة (للأهل والأطفال دون 16 عامًا).. وغيرها من الأدوات التي لم يطلع عليها ولا يعرفها كثير من مستخدمي السوشيال ميديا.
السوشيال ميديا لم تخلق ظواهر جديدة، لكنها أشعلت الضوء لنرى مجتمعنا بوضوح!. السوشيال ميديا ليست مشكلة بحد ذاتها، لكنها أداة تحتاج إلى تنظيم وحوكمة، لتكون وسيلة بناء لا وسيلة هدم
كيف تساهم السوشيال ميديا في تشكيل هويتنا الاجتماعية؟ هل اختلفت القيّم؟ هل السوشيال ميديا أنجبت ظواهر جديدة؟
التجسس مثلًا كان موجودًا سابقًا بطريقة تقليدية، كالوقوف خلف الباب، كان الناس يرون بعضهم من النوافذ، أما اليوم فيكفي الاطلاع على الستوريات! والتنمر كان موجودًا أيضًا، لكن أحيانًا يمتنع الإنسان عن التعبير عنه؛ بسبب ضوابط المجتمع.
أما اليوم، فيكفي حساب وهمي لتكتب ما تشاء، فتظهر أخلاق الإنسان الحقيقية. التحرش كذلك انتقل من الحارات في غسق الليل إلى الحسابات الوهمية والذباب الإلكتروني والهكر، واليوم باستخدام الذكاء الاصطناعي.
- غياب الخصوصية: سابقًا أيضًا كان هناك أشخاص يتحدثون عن كل تفاصيل بيوتهم في السهرات والجلسات، أما اليوم فأصبحت الحياة الخاصة على شاشات السوشيال ميديا.
وهذا ما جاء التعبير عنه في لفتة ومقطع من مسلسل "باب الحارة"، حيث طرح مفهوم المقارنة عندما اشترى أبو عصام "بابورًا" أخرس لسعاد خانوم، ليشعل فتيل الغيرة عند كل نساء الحارة، ما جعل "البابور" الأخرس يتحدث!. والأمثلة كثيرة جدًا، والظواهر تتعدد بأشكال مختلفة جدًا جدًا.
حتى مشاركة الحفلات والصور، والخروج عن ضوابط الاختلاط المتعارف عليها في المجتمعات الشرقية، هذا يدل على وجود هذه الظواهر المجتمعية سابقًا، ولكن بطرق مختلفة ومحصورة.
إذًا، السوشيال ميديا لم تخلق ظواهر جديدة، لكنها أشعلت الضوء لنرى مجتمعنا بوضوح!. السوشيال ميديا ليست مشكلة بحد ذاتها، لكنها أداة تحتاج إلى تنظيم وحوكمة، لتكون وسيلة بناء لا وسيلة هدم.
ماذا لو استمر الحال هكذا.. فقدان الخصوصية، فقدان الاستقرار، فقدان العلاقات الحقيقية، وفقدان الصدق باللحظة؟ هل هذا يعني أن إغلاق السوشيال ميديا حل؟
إن طرح السؤال بهذا الشكل ليس منطقيًا، فكيف الإجابة عنه؟ بلى، وبكل تأكيد، هي مهمة ووسيلة أصبحت جزءًا من حياتنا، ولكننا قد نحتاج لإعادة رسم خارطة تشكيل العلاقة مع وسائل التواصل.
لماذا لا يضع صانع المحتوى خطة ويلتزم بها؟ هل الحصول على المال أصبح سببًا كافيًا لنشر أي شيء مهما كان؟ هناك اليوم جيل جديد ينشأ في هذا العالم ويتعلم منه، فماذا نريده أن يتعلم؟ وأي قيم نريد أن نزرع فيه؟
ليس خطأ أو انتقاصًا في تطوير مهارات صناع المحتوى وتعزيز محتواهم الطلب بأن يكون ذا هدف وتأثير
تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على الرأي العام
- القوة المؤثرة لوسائل التواصل الاجتماعي: سرعة وصول الخبر والمعلومة، وصياغتها بطريقة مؤثرة وسهلة (مثال: غزة، جريمة إرهابية، تصريح سياسي، كشف خيانة).
- الأخطار المحدقة في سهولة نقل الخبر: تغيير حقيقة الخبر، اختلاق أخبار كاذبة، اتهام صاحب الخبر، النقاشات غير المبنية على قواعد ومعايير بين ناقل الخبر والمتابعين، سهولة الانتقام الشخصي في تشويه ناقل الخبر، تصبح الإشاعة مصدرًا موثوقًا قد يسبب مشاكل كبيرة أو يزعزع الثقة.
- بناء الأخلاق وتدميرها: كيف تؤثر لغة وسائل التواصل الركيكة والمعلومات غير الدقيقة على الفكر والقيم؟ إعادة تقييم المرجعية لاتخاذ وسائل التواصل كمرجعية مطلقة في الأحكام.
أدوات لتصحيح العلاقة مع وسائل التواصل الاجتماعي
- بناء منهجية فكرية لدى الفاعلين في وسائل التواصل الاجتماعي في الفكر النقدي، ومعايير الاستثمار، واستخدام المعلومة وكيفية نشرها.
- حضور دورات تدريبية في كيفية التحقق من المعلومة ومصدرها.
- الابتعاد عن اللغة المستخدمة الركيكة.
- ليس خطأ أو انتقاصًا في تطوير مهارات صناع المحتوى وتعزيز محتواهم الطلب بأن يكون ذا هدف وتأثير.
- دعم فكرة إضافة مادة رسمية في منهاج مدارس الأطفال والشباب في التعليم الإعلامي، واستخدام وسائل التواصل الاجتماعي.
- توجيه الآباء والأمهات والمسؤولين عن الإدارات والجامعات والمدارس إلى التخفيف من استخدام العالم الافتراضي.
- ضرورة تعزيز وجود صناع محتوى يساهمون في وقف نشر الكراهية والتمييز والعنصرية والتنمر.
يحاول هذا المقال الإضاءة على مجموعة من الإشكاليات، وتسليط الضوء عليها، وفتح باب التعمق والغوص في إيجاد تيار يتبنى إعادة تشكيل ما عبر عنه د. مهاتير محمد؛ فوسائل التواصل الاجتماعي أصبحت جزءًا حقيقيًا من حياتنا اليومية، التي توجب علينا فتح تابوهاتها، وتصحيح جزء من مساراتها.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.