منذ انطلاق عملية ردع العدوان التي انتهت بنصرٍ كبير للثورة السورية، خلّص سوريا من حكم الأسد، وأحدث -وسيحدث – هزة كبيرة في المنطقة كلها، انطلقت معها عاصفة من التحليلات تحاول استقراء العملية، وتنظر في دوافعها وأبعادها ومآلاتها (التي بات كثيرٌ منها معلومًا للجميع).
وامتلأت الصحف والمنصات بفيض من الاستنباطات والتوقعات، وهواء الشاشات المتلفزة بالمحللين والمعلقين والمنظرين، المتنوعة وجهات نظرهم وخلفياتهم (لتلفزيون "سوريا" قصب السبق في تغطيته المتميزة)، مع تفاوت في الجد والعمق في جميع ما يطرح.
يطول الكلام إن أراد المرء أن يحصي الاتجاهات والأفكار حول العملية، غير أن منطق نظرية المؤامرة ومنهجها (الأحرى لا منطقها ولا منهجها) كان حاضرًا بقوة بالطبع، ومنتشرًا بوضوح.
يبدو أصحاب نظرية المؤامرة والمدافعون عنها أشباهًا دائمًا في جميع ما يتفاعلون معه مهما اختلف الزمان والمكان والشخوص، يتكلمون بقاموس واحدٍ، ولغة تحوم في العدم المتشكك حتى في ذرات الهواء
فوقت العملية وحجمها، وجغرافيتها ومداها، وأبطالها وأهدافها وعمقها، وطولها وعرضها، وضحاياها وداعموها (إن لم يوجَدوا يُفترضوا رأسًا) واتجاهاتهم، ودول الإقليم وإقليم الدول، وتأثيرها السياسي والجيوسياسي والعسكري.. ما وراء الأكمة وما أمامها، وما فوقها وما تحتها (تصلح هذه في كل مكان).
كل ذلك وأكثر مع حفلة صاخبة من معجم الملف السوري (ومعاجم السياسة والعسكرة) متكدسة ومتكردسة بعضها في أحشاء بعض كيفما كان وعلى أي وجه، لتشكل شكلًا مشوهًا من مواد مقروءة ومرئية تُلقى في رؤوس الناس المساكين.
قد يفهم شيءٌ من حضور مثل هذه التحليلات على هواء التلفاز، ففي اليوم أربع وعشرون ساعة لا بد من ملئها كلها، ولا يمكن لأي محطة أن توفّر عددًا من الباحثين أو المعلقين الجادين يغطي كل الوقت، غير أن التعجب لا ينقضي من تبني كثير من المثقفين والناشطين لهذه النظرية ودفاعهم عنها وقتالهم دونها.
يبدو أصحاب نظرية المؤامرة والمدافعون عنها أشباهًا دائمًا في جميع ما يتفاعلون معه (للأمانة يتفاعلون مع كل حدث) مهما اختلف الزمان والمكان والشخوص، يتكلمون بقاموس واحدٍ، ولغة تحوم في العدم المتشكك حتى في ذرات الهواء.
هم متأهبون لإدغام كل ما يحدث في الحاضر، وما حدث في الماضي وما سيحدث في المستقبل، في أثواب تفسيراتهم المفصلة لتتسع كل شيء، وكل شيء لا بدّ يحتاج إلى تفسير، ليُخرجوا لنا مزيجًا عجائبيًّا من الغثاثة واللغوصة، والتفكير الرغبوي والجهل المعرفي، والكسل عن البحث، والتكرار الممل حدَّ الغثيان، والاستخفاف بالأفهام، وتحميل الحدث أو أبطاله ما لا تحتمله أفلام هوليود وبوليود، في شكل البحث والرصد الواقعي والتنظير المعرفي.
لا مكان للبديهي والواضح القريب في عرف نظرية المؤامرة، ولا في خصوصية الحدث الضخم، وفي تتابع أحداث تليه، وتسلسلها الذي ليس من شأنه أن يكون منطقيًا بالضرورة، ولا فيما فُطر أهل الأرض عليه من غرائز البشر وطبائع الأشياء، وتفاوت أفهامهم وثقافاتهم وطباعهم الجمعية والفردية، وما سن فيها من سنن متعارف عليها في دوام الحركة والتغير والظروف التي تهيئ لمجيء واقع جديد، كل تلك الثوابت تنمحي أو تنمسخ لصالح تهويمات النظرية التي تفسر كل شيء من خارجه.
لا يمر الكثير من الوقت حتى تعم مثل تلك الفرضيات ونتائجها، ويكثر جمهورها ومؤيدوها، لتصل إلى حدود اليقين، وتفرض نفسها كحالة أمر واقع في الفضاء الثقافي، لا يستطيع البحث الجاد وأصحابه -غالبًا – الإعراض عنها، أو تجاوزها إلى التركيز على الرصانة العملية والمعرفية بأدواتها وقواعدها السليمة، فيضطر البحث المنهجي في مرحلة ما أن يشتبك مع قواعد تلك النظرية وما أفرزته، وفرضيات أصحابها وخبلهم، ليكشط عن الواقع والتاريخ ما تكاثف فوقه من وُحُول شوّهته، بل غيرت معالمه.
بالوسع ضرب أمثلة كثيرة عن مثل هذه الجهود البحثية، واضطرارها لتفنيد أوهام وفرضيات زائفة شاعت بين الباحثين والناس، منها مثلًا بحث توماس هيغماير عن الجهاد الأفغاني، وتبيينه زيف الافتراضات التي ادعت تلقي المقاتلين العرب دعمًا أميركيًّا بدون دليل، وكذلك أبحاث يوجين روغان عن فترة انهيار الدولة العثمانية والحرب العالمية الأولى، وتكوّن دول المشرق العربي، وهذه الحقبة ملعب أثير لكتّاب نظرية المؤامرة.. وغيرها الكثير. والحق أن الأبحاث الجادة في معظمها تميل إلى التفسير الداخلي للظواهر والأحداث.
في حين انعدم أي مشروع أو رؤية أو أفق عسكري (وغير عسكري للأسف) لفصائل الجيش الوطني، بدت الهيئة بتماسك تنظيمها وتوحد صفها مُجيدة لرسم شيء من الأفق المستقبلي، والذي تبين بالتحضير للعملية منذ سنوات بحسب تصريح قائدها أحمد الشرع
بالعودة إلى عملية ردع العدوان، ومع الاعتذار من جميع المحللين والمعلقين أصحاب التخاريف على هذا السرد غير السابح في خيال الشك والريبة:
عملت هيئة تحرير الشام بعدما سيطرت على حيز جغرافي معلوم عند متابعي الشأن السوري، لا ينازعها فيه أي فصيل عسكري آخر، على مضاعفة قوتها العسكرية من الناحية البشرية وقوة وكمية السلاح المتوفرة، وتطوير ما استطاعت عليه وأمكن تأمينه من تقنيات عسكرية وشبه عسكرية، اشتغلت في ورش محلية بسيطة، وظلت محدودة بالقياس إلى المنطق التقني العسكري للدول (حققت طائرات الشاهين في المعركة بعض النتائج الملحوظة، لكن ذلك لا يعود لكفاءتها التقنية العالية).
وفي حين انعدم أي مشروع أو رؤية أو أفق عسكري (وغير عسكري للأسف) لفصائل الجيش الوطني، بدت الهيئة بتماسك تنظيمها وتوحد صفها مُجيدة لرسم شيء من الأفق المستقبلي، والذي تبين بالتحضير للعملية منذ سنوات بحسب تصريح قائدها أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني).
ثم منذ عملية طوفان الأقصى ظلت الهيئة تتحين فرصة لبدء عملها العسكري مع جس نبض الجار التركي، الذي أظهر على الأغلب عدم تحمسه (والحق أن أكثر المعنيين بالشأن السوري لم يكونوا متحمسين ولا واثقين بالعمل العسكري، ويمكن مراجعة طيف واسع من الآراء التي كتبت في هذا الباب).
اتُّخذ قرار العمل بعد قصف لقوات النظام على أريحا واستشهاد عدد من المدنيين؛ فتشكلت غرفة عمليات عسكرية ضمت معظم الفصائل العاملة في الشمال السوري، قادتها هيئة تحرير الشام وكانت رأس الحربة فيها، دون دعم عسكري أو تغطية سياسية من أي دول خارجية (أدلة ذلك كثيرة واضحة، ومن يفترض عكسها فليأتِ بأدلة منطقية يُبنى عليها)، بل -أكثر من ذلك – كان التقرب من نظام الأسد سياسة حلفاء الثورة القدماء.
بدا انهيار قوات النظام هائلًا لم يتوقعه أكثر المتفائلين، وتفاجأ الجميع (كما يحدث دائمًا في الأحداث العظام) حتى أبطال العملية بالمساحات التي سيطروا عليها في وقت قياسي، وقد شارك الطيران الروسي في إسناد القوات السورية (عكس ما قيل عن أنه لم يشارك) التي شغلت أقصى طاقتها المدفعية والجوية، كذلك قصفت خطوط التماس وساحات القتال، ولم تسلم مراكز المدن والمشافي من عمليات الانتقام الجبانة، ومضى المقاتلون يفتحون المدن تباعًا في قصة باتت مجرياتها معروفة للجميع.
هكذا تسلسلت الأحداث بهذه البساطة بعدما اختمرت ظروفها وتهيأت أسبابها.. بالتأكيد سيكتب الكثير الكثير حولها، وننتظر بعض الجدة في تناولها، بعيدًا عن الخيالات المريضة بنظرية المؤامرة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.