شعار قسم مدونات

انتصار الثورة وخطاب العدالة والمصالحة

آلاف السوريين في ساحة الأمويين بدمشق اليوم احتفالا بجمعة التحرير
لا يمكن أن تكون المصالحة الوطنية والسلام المجتمعي والأهلي بديلًا للأثمان الباهظة والأسطورية التي قدمها الشعب السوري العظيم (الجزيرة)

شكلت الانتصارات الثورية في سوريا حدثًا مذهلًا وضجيجًا سياسيًا ودويًا هائلًا، وذلك بسبب الانتصارات والتحولات الدراماتيكية للثورة السورية، وهو ما ساعد في حصول الإنجازات السريعة والمدهشة في الحقل العسكري والأمني، وكذلك من خلال حالة العجز الروسي والإيراني الحامل للنظام العسكرتاري الأوليغارشي.

إذ بينت الوقائع والأسباب الموضوعية أن الروس والإيرانيين والمليشيات الداعمة لهم سقطوا في حالة من الشلل والعجز عن مساندة النظام وإنقاذه عسكريًا ولوجيستيًا، ما أدى إلى تدحرج سريع وانتكاس نفسي وعسكري في قوات النظام المهزوم، وهذا ما شكا منه الطاغية المجرم بشار الأسد لوزير الخارجية الإيراني عراقجي في زيارته الأخيرة إلى دمشق.

وكذلك، لا يمكن إخفاء عامل التجهيز والإعداد الموضوعي لقوى المعارضة والثورة، واغتنام اللحظة التاريخية للتحرك السريع، إضافةً إلى عوامل محلية وإقليمية ودولية أخرى، وخاصةً إثر صراع وحرب حزب الله مع إسرائيل، وانعكاسات حرب غزة على المشهد العام للمنطقة العربية وبالأخص الحقل السوري، ما أدّى إلى تحفيز والتقاط اللحظة التاريخية للهجوم والمباغتة، في فجر الأربعاء 27 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024 في عملية "ردع العدوان"، التي أسهمت في إنجاز الظفر والنصر على جيش النظام المهزوم والمتهالك معنويًا ونفسيًا.

لا يمكن أن تكون المصالحة الوطنية والسلام المجتمعي والأهلي بديلًا للأثمان الباهظة والأسطورية التي قدمها الشعب السوري العظيم، في كل مراحل كفاحه وجهاده المرير ضد الظلم والطغيان خلال أكثر من نصف قرن

فقد بدأت مصفوفة الدومينو بالسقوط والتداعي الحثيث، ما شجع المعارضة المسلحة على التقدم إلى حلب، وهذا بدوره سهّل مرحلة ما بعد حلب وصولًا إلى تحرير دمشق في فجر يوم الأحد 8 ديسمبر/ كانون الأول، إذ سرعان ووشكان ما فقدت قوات النظام التحكم والسيطرة بشكل فظيع، وأصيبت بالسقوط والانهيار الكامل والمتلاحق، ولكن كان من اللافت أن التحرك العسكري كان يسير متساوقًا مع خطاب سياسي ناضج وواعٍ، يقوم على تهدئة الأقليات وبث روح تصالحية ووطنية عالية المستوى، تتأسس على طمأنة المكونات والإثنيات بشأن حقوقهم ودورهم ووجودهم الحالي والمستقبلي.

إعلان

وسرت بهذا الخصوص في المشهد السوري عبارات رائعة ومشجعة بأن سوريا هي وطن لكل السوريين، وأن المساواة حاكمة على الجميع، وأن هذا الإنجاز والانتصار لا ثأر فيه.. وبقي هذا الخطاب في حركة تزامل وتساوق مع أيام التحرير، والحقيقة التي لا يمكن إنكارها هي أن تأثير هذا الخطاب السياسي الأخلاقي في العمق المجتمعي وفي الواقع والعمق الإقليمي والدولي كان ملحوظًا وكبيرًا، وأسفر عن نتائج إيجابية وتشجيعية عند الجميع، من القاعدة الشعبية إلى النخب المجتمعية، وهي حالة مشاهدة ومعهودة كذلك في ردود الأفعال الدولية، وخاصة الأوروبية والأميركية منها، إذ هي الأكثر اهتمامًا بالحدث السوري.

ويبقى السؤال الأكثر محورية وأهمية في حقل الداخل والخارج عن مدى جدية وصدقية هذا الخطاب في حقل الممارسة والعدالة، واحترام الحقوق والحريات، وكذلك في إشراك الأقليات في القرار والإدارة المستقبلية لسوريا.

وبدأت دول الإقليم والعالم المعنية، وكذلك المؤسسات الإنسانية، تطرح بجدية وإلحاح هذا السؤال المحوري: أهذا الخطاب وهذه الممارسة الأولية الناجحة هي حالة تكتيكية، تفرضها طبيعة الانتصار الابتدائي للثورة، أم هي حالة إستراتيجية قائمة على إدراك واعٍ لمسألة الحقوق والحريات، وضمان إعطاء الأقليات حقًا حقيقيًا وقانونيًا من المشاركة الفاعلة في البناء والتعمير السياسي والاجتماعي؟

الخطاب التصالحي تعتريه أسئلة منهجية وملحة في العقل السياسي والحقوقي الإنساني، وهذه الأسئلة ليست نظرية أو فكرية، بل هي صميمية وجوهرية تتأسس على دفع السوريين أنهارًا من الدماء المسفوحة، وجبالًا من الحقوق المنهوبة والمستباحة

والحقيقة أن هذه الجدلية ستظل قائمة حتى تتحقق المسارات الفاعلة على أرض الواقع، ويتم تطبيق هذا الخطاب بقواعد دستورية وقانونية حقيقية، تقوم على العدالة والكفاءة والحقوق المتساوية، ولكن هذا الخطاب التصالحي تعتريه أسئلة منهجية وملحة في العقل السياسي والحقوقي الإنساني، وهذه الأسئلة ليست نظرية أو فكرية، بل هي صميمية وجوهرية تتأسس على دفع السوريين أنهارًا من الدماء المسفوحة، وجبالًا من الحقوق المنهوبة والمستباحة لأكثر من نصف قرن.

إعلان

فهل سوف تمحى هذه الحقوق، وتترك الجرائم الإنسانية وجرائم الإبادة بذريعة المصالحة الوطنية والعيش المشترك؟ وهل تملك الدولة أو المؤسسات الدستورية والقانونية حق العفو والصفح عن جرائم أشخاص النظام والمليشيات وعتاة المجرمين؟

إن عملية التشويش والخلط بين هذين المفهومين لا ينبغي أن تقترب من طرح إحدى المعادلتين على حساب الأخرى؛ العدالة الانتقالية أو المصالحة الوطنية، فهذه ليست ثنائية قابلة للانفكاك في الحق الشرعي وفي القانون الدولي، لأن المصالحة الوطنية لا تكون بالتجاوز على الحقوق والدماء والجرائم، وهي حقوق لا تسقط بالتقادم، لا بالمعنى الشرعي الإسلامي ولا بالمدونات القانونية الدولية، فهي معادلة تراتبية وليست معادلة ثنائية تقابلية؛ بمعنى: ليست المسألة إما العدالة الحقيقية، وإما المصالحة الوطنية! بل هي تراتبية بمعنى أن الثانية لا تقوم ولا تقبل إلا على أساس الأولى.

فلا مصالحة بلا عدالة وقسط وإعادة للحقوق، فضلًا عن أنه لا يمكن في الحق الشرعي والقانوني الإكراه أو تجاوز الدولة لحقوق الأفراد في القصاص العادل، فهذه ليست من خصوصية الدولة في المفهوم السياسي والقانوني، وحتى في مفهوم السياسة الشرعية، بل هي حقوق ينبغي أن تكون ناجزة للأفراد والمجتمع ولكن بإدارة الدولة.

وبهذه الاعتبارات لا يمكن أن تكون المصالحة الوطنية والسلام المجتمعي والأهلي بديلًا للأثمان الباهظة والأسطورية التي قدمها الشعب السوري العظيم، في كل مراحل كفاحه وجهاده المرير ضد الظلم والطغيان خلال أكثر من نصف قرن.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان