الجدل الذي تفجّر من جديد حول مقترحات تعديل مدونة الأسرة بالمغرب؛ يعبر عن قلق مجتمعي عميق يطول مصير منظومة الأسرة وقيمها التاريخية والحضارية والدينية، بلغ درجة مطالبة البعض بعدم الزواج أو الاتجاه نحو الحل الهندوسي، ما جعل المزاج العام يتوجّس من الإقدام على خطوة الزواج وبناء الأسرة.
1. في نقد تمثلات النسوية الحداثية والنسوية المتأسلمة:
إن اختلالات الواقع الأسري، والتحديات المطروحة على الحالة الزوجية والأسرية في أبعادها الهوياتية والأخلاقية والمجتمعية والاقتصادية والديمغرافية؛ لا تُحل من خلال النظر إلى الرجل والمرأة بوصفهما وحدة فردية مستقلة، كل طرف فيها متمركز بشكل مَرضي ومتطرف على نفسه، مكتفٍ بذاته ورغباته وتطلعاته، وكأنهما يتحركان فوق أرضية مادية تقوم على فكرة التعاقد البارد والتنازع الحتمي والصراع الدارويني داخل الأسرة، أساسه المطالبة المطلقة والعاجلة بالحقوق دون أي تنازل، مقابل ميزان مختل تجاه أداء الواجبات بشكل يجمع بين التأجيل والتفويض والتعطيل؛ وجعل هذه العلاقة – التي يفترض أن تكون مقدسة – مجرد حلبة صراع يتمحور حول الهوية واللذة والجسد والمال، فتصير الأسرة مجالًا للحرب؛ المرأة في مواجهة الرجل، والرجل في صدام مع المرأة، والأبناء في صراع مع الآباء، على سنان المكر والخديعة وسوء الظن والأنانية.
إن أزمة الخطاب النسوي بشقيه؛ الحداثوي والمتأسلم، في مقاربته الفكرية ورؤيته المنهجية؛ محاولة لحسم المعضلات الجوهرية لمنظومة الأسرة، بالاستناد إلى المقاربة القانونية الشكلية والإجراءات المسطرية، ضمن نموذج تغريبي سواء أكان ظاهرًا أم كامنًا
إن الانجرار إلى نزع "القداسة" عن الأسرة، والتعامل معها بمنهج التنازع والتنافر ضمن منطق مساواتي- مقاولاتي، سيحول الأسرة من ظاهرة إنسانية مركبة إلى مجرد ظاهرة مادية أحادية البعد، ما سيؤدي إلى ابتلاع السوق للرجل والمرأة والأبناء، بعد تفكيك الروابط الإيمانية والروحية والتراحمية، وإخضاع منظومة الأسرة للنموذج الاستهلاكي المادي الشامل.
وفق هذا المسعى الاحترابي المادي؛ تلتقي النسوية العلمانية – بشكل غير مباشر- مع النسوية المتأسلمة الجديدة.. فالأولى ترى في الانفصال العلماني الدهراني عن المرجعية التقليدية ضرورة لإنقاذ أوضاع المرأة وفق رؤية تجزيئية تغريبية، وتدافع عن تحويل الاتفاقات والمواثيق الدولية إلى "مقدس دنيوي" و"خط أحمر"، يتضمن "مطلقات محسومة" ينبغي الشروع الفوري في تنفيذها، باعتبارها ثقافة كونية تمتلك حلولًا سحرية وناجحة لكل المجتمعات والمشكلات، حيث يتم الاشتغال وفق استدعاء أدوات الاجتهاد الديني لتبرير الأطروحة العلمانية، ومن ثم تفكيك البنيات المحافظة من خلال المصطلحات المستخدمة والإجراءات التقييدية.
أما الثانية، فهي أقرب إلى تعبيرات جديدة في طور التشكل، يمكن نعتها بالنسوية المتأسلمة السائلة، وهي موجة لا ترى تناقضًا بين إسلام السوق والتدين الاستهلاكي والحداثة الغربية، إذ ترتكز على سردية تدعو لإعمال المرجعية الدينية والاجتهاد في قضايا الأسرة ضمن رؤية اختزالية، تستمد أسسها الفكرية والتأويلية من خلفية هجينة انتقائية، مؤطرة بنموذج علماني كامن يلفق بين المرجعية الإسلامية والحداثية معًا، بما يخدم نمطًا جديدًا للعلاقات الأسرية وفلسفة الحقوق والواجبات، ويُعرض عما لا يناسبه باسم تغير الواقع وتطوره.
وهي ممارسات تشتغل وفق آلية ظاهرها احترام النص الشرعي، وباطنها علمنة فكرية "ناعمة" و"صامتة" في رؤيتها للعلاقة الزوجية ولإصلاح أوضاع الأسرة والمجتمع. وسيكون مآل هذه الأنماط تفجير المجتمع وتفخيخ العلاقات الزوجية، وتسميم الأسرة مفهومًا وعلاقة ومؤسسة بعد تشييئها وتعميق اغترابها عن أصالتها الحضارية.
إن أزمة الخطاب النسوي بشقيه؛ الحداثوي والمتأسلم، في مقاربته الفكرية ورؤيته المنهجية؛ محاولة لحسم المعضلات الجوهرية لمنظومة الأسرة، بالاستناد إلى المقاربة القانونية الشكلية والإجراءات المسطرية، ضمن نموذج تغريبي سواء أكان ظاهرًا أم كامنًا.
أما المسكوت عنه في هذا الخطاب المأزوم؛ فهو محاولة تقديم الإسلام بوصفه حدثًا تاريخيًا ماضويًا، واعتبار مفاهيمه وقيمه وأخلاقه في التشريع الأسري تشكل عائقًا في وجه التحديث الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، وبالتبع؛ تكون المرجعية الإسلامية متجاوَزة وتقليدية، وغير صالحة لتقديم إجابات عن مشكلات الواقع وتحولات المجتمع وخصوصيات البيئات الثقافية.
وهذه حالة غريبة تتنكر للمداخل المركبة والمتكاملة، التي تقدمها المرجعية الإسلامية بمنظومتها التشريعية والأخلاقية والروحية والمفهومية والمقاصدية لبناء أسرة متماسكة، قادرة على تربية متوازنة وفاعلة لأجيال المستقبل: (جيل النهوض والتحرر- جيل حضارة مسؤولة- جيل الإبداع والاستقامة- جيل العدل والكرامة- جيل الاعتدال والتوازن- جيل العلم والاعتزاز بالهوية والانتماء…).
ناهيك عن القناعة المتأصلة للتمثلاث والخطابات النسوية الحداثية والمتأسلمة، من قصور الرؤية الدينية عن حل مشاكل الأسرة ودعمها حتى تستعيد عافيتها ووظائفها التربوية والاجتماعية والتعليمية والوطنية والحضارية.
إن الرؤى والمنطلقات والنظريات المادية الأحادية تصب في نطاق خلق أنماط جديدة من العلاقات، متحررة من الالتزامات الدينية والاجتماعية لفائدة علاقات تبحث عن المنفعة والمتعة واللذة فقط، مآلها "أسرة" بلا روح، لا هي بالتقليدية ولا الحداثية ولا المسلمة، بل تفريخ لنموذج "ممسوخ"
لقد أنتج هذا المسار المرتبك تبني الخطاب النسوي لنموذج انفصالي يقوم على:
- فصل المرأة عن الأسرة: بتحريرها مما يسمونه بـ "عبودية الأمومة التقليدية"، والتحرر من مسؤولية "التربية الأسرية" في أبعادها الفطرية والدينية والحضارية، وبالتبع التحرر من الرؤية الدينية التي تؤطر مفهوم "الزواج" بوصفه ميثاقًا غليظًا ورباطًا مقدسًا، واعتبار كل ذلك أشكالًا من الرجعية والخضوع للذكورية، الأمر الذي يقضي ببناء تصور "وضعي- عقلاني" جديد للعلاقات يسعى لتحقيق "الذات الأنثوية" خارج الأسرة؛ فتصير هذه الذات "كائنًا مفارقًا" للنسق الأسري.
- فصل الرجل عن الأسرة: بتحقير قوامته "التكليفية" الشرعية، وتقديمه حاكمًا مستبدًا، وشخصًا ذكوريًا شريرًا يحتكر السلطة والثروة داخل الأسرة، ومتهمًا باستمرار بانتهاك حقوق المرأة والأسرة والأبناء. كما يعمد هذا الخطاب إلى إلغاء "سلطة الأب" بوصفه رب الأسرة والمسؤول الاجتماعي والتربوي عن قيادتها، وبالتالي إنهاء الأبوة مناطًا رئيسًا للقدوة والإرشاد والتوجيه، وصولًا إلى جعل الرجل مجرد كائن مادي سلبي، مكلف بالإنفاق الاقتصادي، ولا يصلح لتقديم أي شكل من أشكال الإنفاق الروحي والتربوي والحضاري.
2. مساعي الإلحاق القسري للأسرة المغربية بالمادية الغربية:
إذا كان النموذج الغربي أنتج حالة مَرضية من التمركز حول الذات واستغناء الرجل عن الزواج، وانفصال المرأة عن الأسرة، ثم الوصول إلى واقع التمركز المتطرف حول الأنثى؛ فإن عبدالوهاب المسيري اعتبر أنه عند اجتماع رجل وامرأة في الغرب لم يعد الشيطان ثالثهما، لأن العالم الذي يتحركان فيه أصبح حياديًا تمامًا، وخاليًا من القداسة أو من أي اعتبار لمفهومي الخير أو الشر؛ فكل ما يتطلبه اللقاء شهادة خلو من الأمراض المتنقلة جنسيًا مثل الإيذر معتمدة بتاريخ حديث.
وهكذا نبه المسيري إلى أن سقوط المرأة، الأم والزوجة، يعني هدم الأسرة وتراجع الجوهر الإنساني المشترك، وإنتاج بشر يفكرون بحسبانهم أفرادًا، لكلٍّ مصلحته الخاصة وقصته الصغرى الخاصة، كل إنسان مثل الذرة التي تصطدم بالذرات الأخرى وتتصارع معها، والجميع يجابهون الدولة وقطاع اللذة وثقافة الإشهار والإعلانات بمفردهم، وتسود الوحدانية السائلة التي لا تعرف الفرق بين الرجل والمرأة وبين الإنسان والشيء.
إن تلكم الرؤى والمنطلقات والنظريات المادية الأحادية تصب في نطاق خلق أنماط جديدة من العلاقات، متحررة من الالتزامات الدينية والاجتماعية لفائدة علاقات تبحث عن المنفعة والمتعة واللذة فقط، مآلها "أسرة" بلا روح، لا هي بالتقليدية ولا الحداثية ولا المسلمة، بل تفريخ لنموذج "ممسوخ" يجعل الأسرة هشة وتائهة ومستهلكة ومدينة، تبتلعها الحيرة والديون والسوق وأخلاق الصراع، فيقع الانتقال -حسب زيغمونت باومان – من عصر الزواج إلى عصر "المعاشرة" (المخادنة) القائم على:
- الطبيعة المؤقتة والعابرة للمعاشرة، أو انفصال الجنس عن التكاثر.
- الطبيعة الهشة للروابط التي تنشأ عنها، فهي تقوم على التفاوض المستمر والتجريب الدائم والتغير المزاجي.
- إمكانية انتهاء العلاقة في أي لحظة ولأي سبب.
- فك الارتهان الأحادي عند انقضاء الحاجة أو انطفاء الرغبة.
إن استحضار البعد التزكوي في العلاقة الزوجية والأسرية والعائلية؛ قادر على حماية التماسك الأسري وتحقيق السكينة والمودة، والانعتاق من الخصام والصراع إلى التعاون والإنتاج والعمران
نداء الإسلام.. من أجل أسرة مستقرة، آمنة ومؤتمَنة:
لقد تأسست نظرة الإسلام للأسرة والعلاقة الزوجية ضمن إطار أخلاقي وروحي وديني، يقوم على المودة والتراحم والتعاون، تنطلق العلاقة وفقه من قيمة "العدل" لترتقي إلى مقام "الفضل"، فيتحقق المفهوم القرآني "السكن" اختيارًا قيميًا يحيل على الأمن والطمأنينة والسكينة النفسية والروحية، ويحضر مفهوم "اللباس" بكل معاني التجمل والستر والوقاية والملاءمة، ويحضر مفهوم "الزوجية" بوصفه سنة كونية وشرعية.
وهذا يحيل على أهمية الاستحضار الدائم للمقصد التعبدي في العلاقة الزوجية، وتجاه محيطهما الأسري أو الاجتماعي العام، بحيث ينبغي أن يسود منطق الفضل متمثلًا في الإيثار واستباق الحسنات وطلب رضا الله وثوابه، من طرفي العلاقة الزوجية. فتحصيل السكينة النفسية والعائلية والاجتماعية يتحقق بقدر ما تحضر الأبعاد التعبدية والروحية والأخلاقية في كل خدمة وواجب يؤديه كل من الزوج وزوجه.
وإن استحضار البعد التزكوي في العلاقة الزوجية والأسرية والعائلية؛ قادر على حماية التماسك الأسري وتحقيق السكينة والمودة، والانعتاق من الخصام والصراع إلى التعاون والإنتاج والعمران.
ومن ثم كان الوعي برسالة الأسرة في الوجود يحقق الفاعلية الاجتماعية والخيرية والائتمانية والاستخلاف من خلال "إمامة المتقين"، فتكون الأسرة صانعة الحضارة، ومنبع الوطنية، ومحضن القيم، ومغرس التدين، ومؤسسة لتكثير الفرد الصالح المصلح النافع لوطنه ودينه وللإنسانية والعالم الذي ينتمي إليه.
خاتمة:
إن الحاجة اليوم ملحة لتمركز مضاد، يكون مداره حول حقوق الأسرة لتعزيز سياسات التماسك الأسري، والتشجيع على الزواج والاستقرار المجتمعي، والاتفاق على إقرار رؤية تخرج الأسرة من ضيق المقاربة العلمانية إلى إصلاح واقع القيم الأسرية، عبر التربية والتوعية والتزكية لتواكب إصلاح النصوص وتعديلات القوانين، حتى نصل إلى مستوى يجعلنا لا نرتكب الخطأ المكلف اجتماعيًا وتنمويًا وحضاريًا، ولا نقرب ما يمكن أن يضاد الدين أو ينافي المروءة والشهامة.
وهذا ما أكده الفيلسوف علي عزت بيغوفيتش بقوله: "إن كثرة القوانين والتعقيد في سنها؛ عادة ما يكون علامة يقينية على أن ثمة شيئًا متعفنًا في المجتمع، وأنه يتعين علينا التوقف عن سنّ القوانين، والبدء في تربية الناس".
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.