أثار الحسم الباهر للثورة السورية في تحرير الشام عسكريًا اهتمام العالم، ومع هذا التغيير اللافت تصاعد الحديث عن كفاءة قيادة الثورة، المتمثلة في الرئيس أحمد الشرع وفريقه، واتصافهم بأمرين بارزين، وهما الخلفية الإسلامية والأسلوب البراغماتي في الأداء السياسي؛ ما دفعني إلى أن أبحث عن عناصر النجاح السياسي في القرآن الكريم وعلاقة البراغماتية به.
البراغماتية منهج يتدرب عليه السياسيون المعاصرون لاكتساب القدرة على النجاح السياسي، وهي تركز على إنجاز النتائج العملية بطريقة واقعية، وتقيس قيمة الفكرة بمدى تحقيقها للأهداف النافعة، وتدعو إلى المرونة في مواجهة التحديات، واعتماد التجربة والواقع بدلًا من المبادئ الثابتة، والتكيف مع الظروف لتحقيق المنفعة الكبرى، وتغليب الحلول العملية على النظريات المجردة.
من مخاطر البراغماتية أنها قد تؤدي إلى تغليب المصالح والإنجازات على المبادئ والأخلاقيات، وتبرير الوسائل غير المشروعة لتحقيق الأهداف، وقد تشجع على الأنانية والانتهازية إذا أصبحت المنافع الشخصيّة أو المصالح القريبة هي المعيار الوحيد للإنجاز.
أما النجاح السياسي في القرآن الكريم -كتاب الإدارة العملية للحياة- فهو منهج راقٍ وشامل وواقعي وعملي ومتوازن، يتضمن كل عناصر النجاح والأهداف والغايات وطرق الأداء، ويجمع بين المبادئ والمصالح، ويكسب الصفات والمؤهلات والمهارات اللازمة لإعداد القائد السياسي الناجح بأفضل التطبيقات العملية، وأطهر الأساليب الواقعية، وأرقى الغايات الجالبة لمصالح الجميع على المديين؛ القريب والبعيد.
يعد سيدنا يوسف بحق من أعظم نماذج المرونة في التاريخ؛ فقد أساء الجميع إليه؛ إخوته رموه في البئر، امرأة العزيز حاولت إغراءه ثم ادعت عليه زورًا، القضاة حكموا عليه بالسجن ظلمًا، الملك عرف براءته وسجنه
تتقاطع بعض مهارات البراغماتية، مثل الواقعية والمرونة والتجريب وتقديم الحلول وتحقيق المنفعة، مع مهارات النجاح السياسي القرآنية، ولكن القرآن يقدم منهجًا متوازنًا يتفوق على البراغماتية في تحقيق الإنجازات، والتغلب على الانحرافات.
في هذا المقال، أتناول تفوق مهارات النجاح السياسي القرآنية.
مهارة المرونة العالية وتحقيق التمكين السلمي
- (نموذج سيدنا يوسف)
يعد سيدنا يوسف بحق من أعظم نماذج المرونة في التاريخ؛ فقد أساء الجميع إليه؛ إخوته رموه في البئر، امرأة العزيز حاولت إغراءه ثم ادعت عليه زورًا، القضاة حكموا عليه بالسجن ظلمًا، الملك عرف براءته ثم سجنه، ورغم كل ذلك تجاوز عن الجميع، وقبل أن يعمل مع الملك وينهض بالدولة، سامح إخوته، وامرأة العزيز يقال إنها صارت زوجة له.
امتلك كل أدوات النجاح وصولًا للتمكين السلمي: تفوقه العلمي جعل الدولة كلها تحتاج إليه؛ جمع بين المبادئ والمصالح دون انتهازية ولا تفريط ولا انتقام؛ فلم يضعف أمام سيدة القصر الأولى ولم ينحنِ للشهوات والتهديدات، وكان مرنًا لدرجة أن يقبل دخول السجن إعلاء للعفة، واستخدم اللباقة والدبلوماسية؛ فحينما أراد تبرئة نفسه قبل الخروج من السجن طلب من الملك أن يعيد التحقيق في أمر النسوة اللاتي قطعن أيديهن، ولم يذكر امرأة العزيز مع أنها صاحبة المشكلة الأساسية، واستخدام الحيل لأخذ أخيه فوضع صواع الملك في رحله، وحينما تمكن لم يثأر، وامتلك القدرة على احتواء المسيئين وطي صفحات الماضي وتصفير المشكلات مع الجميع للتفرغ لبناء الدولة.
مهارة التجارب والمعامل والاختبارات السياسية وإعادة التقييم
كان سيدنا سليمان من القيادات العالمية الحكيمة، التي تمارس السياسة بالاختبارات واستخدام منهج النظر؛ فقد اختبر صدق رئيس مخابراته (الهدهد) {قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ}؛ واختبر مملكة بلقيس: {اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ}؛ ثم اختبر ذكاء شخصية بلقيس {قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ} [النمل:41].
وكان يستخدم وسائل اختبارية للتحرك السياسي والعسكري، وتوظيف القوى الناعمة بدل الخشنة؛ حيث لوح فقط بالقوة {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ}؛ ولم يستخدم القوة، بل استخدم الوسائل الإبداعية، وطلب من رجاله المبدعين إحضار عرشها: {قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا}؛ ثم استخدم الإبهار بالتفوق الحضاري بإدخال بلقيس القصر الزجاجي، للتأثير والإقناع وإنجاز الأهداف.
في بلاد مطلع الشمس، اكتفى ذو القرنين بالملاحظة والتقدير، ما يظهر أن القيادة الحكيمة لا تعني التدخل في كل المواقف، بل القدرة على تقدير ما يلزم وما لا يلزم
مهارة تحقيق المصالح بالعمل الدبلوماسي
- وتقديمه على العمل العسكري (نموذج صلح الحديبية)
هناك سورة كاملة نزلت بعد اتفاقية صلح الحديبية وسماها الله تعالى (سورة الفتح)، لتربية المسلمين على أن الفتوحات العظيمة قد تتم بالحوار والتفاوض والاتفاقيات بدل الصراع والحرب والاقتتال.
يتفوق صلح الحديبية على البراغماتية المعاصرة؛ فهو يتضمن بنودًا تدل على العمق السياسي المحقق للمصالح القريبة والبعيدة وتجاوز الشكليات، كرفض كتابة (بسم الله الرحمن الرحيم) والكتابة بدلًا منها (باسمك اللهم)؛ ورفض كتابة (محمد رسول الله) وكتابة (محمد بن عبدالله)؛ والقبول بأمور ظاهرها مجحف، كإرجاع من يأتي مسلمًا ورده لقريش وعدم إرجاع من يعود لمكة.. حكمة التدبير السياسي تجاوزت الأمور الصغيرة إلى الأهداف الكبرى لتحقيق مكاسب إستراتيجية، مثل الاعتراف بالدولة، وإتاحة الفرصة لنشر الإسلام والتمهيد لفتح مكة.
مهارة حسن التموضع حسب تقدير الموقف:
- (نموذج ذي القرنين؛ القيادة العالمية الحكيمة)
أدار ذو القرنين رحلاته الثلاث بحكمة ومرونة، متكيفًا مع ظروف كل مكان:
في بلاد مغرب الشمس، كان يملك الولاية الكاملة؛ فأقام العدل وأقر القانون: {قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا وَأَمَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى} [الكهف: 87 – 88].
في بلاد مطلع الشمس، اكتفى بالملاحظة والتقدير، ما يظهر أن القيادة الحكيمة لا تعني التدخل في كل المواقف، بل القدرة على تقدير ما يلزم وما لا يلزم.
في بلاد بين السدين، لم يملك القدرة على المواجهة؛ فلجأ للحماية الإستراتيجية وعزل قوى الشر عبر بناء سور محكم.
يتضح تفوق التربية القرآنية الراقية على كل مهارات البراغماتية في إعداد القادة القادرين على تحقيق النجاح السياسي؛ ما يوجب على واضعي المناهج والمربين وكل قادة العمل الإسلامي تعميق التربية القرآنية للنهوض بالأمة
مهارة النظرة الديناميكية للعلاقات البشرية
سورة الممتحنة تعلم النظرة المنفتحة في التعامل مع الآخر، وترك الجمود والتمحور حول الماضي. يقول الله تعالى: {عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الممتحنة: 7]؛ فالعلاقات البشرية ليست جامدة، بل ديناميكية قابلة للتغير، وأعداء اليوم قد يصبحون أصدقاء الغد.
مهارة الخطاب المناسب
من يملك مهارة الخطاب المتنوع بما يتناسب مع لسان كل قوم؛ ينجح في التأثير والتغيير: {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه}.. نبي الله شعيب خاطب قومه الكافرين: {إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ} [هود: 84]؛ وكذلك فعل سيدنا موسى وسيدنا هارون في تقديم الخطاب المناسب مع أعتى المنحرفين سياسيًا: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 43 – 44].
مهارة الاستعانة بالقوة العظمى لتحقيق المصالح الكبرى
اللجوء للقوة العظمى، قوة مالك الملك حاكم العالم، يجلب تحقيق المصالح الكبرى من حدود الحسابات الإستراتيجية أو المقدرات المادية أو الموازين العسكرية؛ فهو ناصر الفئة القليلة على الفئة الكثيرة {إن ينصركم الله فلا غالب لكم}، وهذا يربي القادة على التخطيط لإنجاز المصالح والانتصارات بأعلى من كل الحسابات: {مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا} [الحشر:2]، وهذا ما لا تعرفه ولا تملكه البراغماتية.
وهكذا يتضح تفوق التربية القرآنية الراقية على كل مهارات البراغماتية في إعداد القادة القادرين على تحقيق النجاح السياسي؛ ما يوجب على واضعي المناهج والمربين وكل قادة العمل الإسلامي تعميق التربية القرآنية للنهوض بالأمة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.