جميع دول العالم خرجت من عام 2024 ودخلت إلى عام 2025 إلا سوريا، فقد خرجت من عام 1971 ودخلت إلى عام 2025!
في عشرة أيام فقط، سقط نظام بشار الأسد بعد أن صمد في حرب استمرت 14 عامًا، الجميع خرج منها خاسرًا، والموت كان هو الغيمة التي تغطي سماء البلاد، وكل التيارات والفصائل ارتكبت أخطاء، والخاسر الأكبر كان سوريا وشعبها؛ فقد تأخرت علميًا واقتصاديًا عن محيطها، بل عن العالم، وخسرت شبابها في البحار. والرابح الوحيد كان بشار الأسد الذي فر من أخيه، وحمى صاحبته وبنيه.
سيأخذ علينا كثيرون أننا كنا مؤيدين له في أثناء فترة حكمه، وهذا حقهم، فقد أخذتنا العزة بالإثم، ولم يكن لدى أحد منا أن يعترف أنه على خطأ، أو ربما جعلنا الخوف من الطرف الآخر أو الإيمان بشعارات معينة متمسكين بوجهات نظر فرقتنا، ووصلنا في سوريا إلى مرحلة الانقسام الكامل، فكل طرف غير متقبل الآخر، وكانت بيننا أسوار من الجماجم وأنهار من الدماء تمنع كل طرف من تقبل الآخر، وكان لا بد من منتصر واحد حتى تعود سوريا موحدة، لا قسمًا في الشمال وآخر في الجنوب وجزءًا في الشرق.
التحدي السياسي هو من التحديات التي تهدد مستقبل سوريا وحاضرها؛ لأن البلاد لم تعش أبدًا حياة سياسية مستقرة منذ أكثر من نصف قرن، فقد كان هناك حزب حاكم واحد فقط من عام 1963 حتى 2024، وكان هناك رئيس واحد منذ 1971 حتى 2024
بعد أن استتب الوضع نوعًا ما للقيادة السياسية الجديدة في سوريا بقيادة أحمد الشرع، هناك تحديات كبيرة وكثيرة نواجهها، أبرزها الأمني والعسكري، إذ إنه حتى الآن ما زالت خلايا فلول النظام تنشط في البلاد، وتهدد بنشاطها وتغلغلها في المجتمع السوري السلم الأهلي، إذ إن القبض على خلية واحدة منهم قد يعرض قرية كاملة للهجوم العسكري من قبل القوات الأمنية.
إضافة إلى ذلك، هناك مسألة بناء الجيش السوري، الذي أصبح مدمرًا بفعل الحرب الطويلة والفساد والغارات الإسرائيلية، وبالتالي تجب إعادة بنائه وفق عقيدة عسكرية جامعة لكل المجتمع السوري، واستيعاب الضباط والجنود الذين كانوا في النظام السابق ولم تتلطخ أيديهم بالدماء، ودمج فصائل المعارضة المسلحة في الجيش الجديد، وإعادة بناء القدرات العسكرية إعادة سريعة ولكن من دون تسرع، خصوصًا إذا علمنا أن حجم الدمار في قدرات الجيش تصل إلى ثمانين في المئة، ثم التوجه نحو حل ملف "قسد" في الشرق السوري، حتى لا يبقى خنجرًا في ظهر الدولة الجديدة.
الملف الاقتصادي هو أيضًا تحدٍّ لا يمكن إغفاله؛ فسوريا التي كان إنتاجها المحلي يصل إلى 61 مليار دولار قبل عام 2011، أصبح إنتاجها العام الماضي 8 مليارات دولار فقط، بينها ثلاثة مليارات دينًا من إيران، وحتى سقوط النظام بقي من هذه الثمانية 300 مليون دولار فقط، وبعد أن كان نصيب الفرد السنوي 2200 دولار قبل عام 2011، أصبح اليوم 300 دولار فقط. هذا الاقتصاد منهار من الألف إلى الياء، وكثيرة هي الأفكار التي تطرح لمساعدته والنهوض به، ولكل منها مزاياه عيوبه.. مثلًا، الاقتصاد الحر سيفيد الدولة بالطبع، ولكنه سيكون سيئًا جدًا على الطبقة الوسطى والفقيرة، خصوصًا أصحاب المعامل البسيطة في البلاد.
والأفضل بتقديري -في هذا الوقت تحديدًا- أن تكون سوريا مرتبطة اقتصاديًا بصورة أو بأخرى بتركيا، أي أن تكون المعامل السورية في حلب وإدلب وحمص شريكة للمعامل التركية الكبرى والمتوسطة، ويكون الإنتاج مشتركًا، وبذلك تكون الدولة قد أنقذت الصناعة من الدمار، ومن السلع التركية الرخيصة مقابل السورية مرتفعة الثمن بسبب التكاليف، وأمنت الاكتفاء الذاتي من الصناعة. ثم يكون الالتفات نحو الزراعة، لا سيما في الجنوب والغرب، والتركيز على المحاصيل الاستهلاكية داخليًا وليس للتصدير فقط.
سوريا لديها مخزون مهم من النفط، وهو ما يستطيع تأمين احتياجاتها الداخلية إذا تم حل ملف "قسد" في الفترة المقبلة، إضافة إلى مادة الفوسفات، ولدى سوريا المخزون الثالث في العالم من هذه المادة، إضافة إلى أن سوريا هي محطة عبور بين أوروبا وآسيا، وبالتالي فإن استغلال هذا الموقع الإستراتيجي سيؤمن أيضًا مبالغ مهمة للدولة، وتوفير موارد لإعادة الإعمار.
التحدي الاجتماعي هو امتحان حقيقي لحكام دمشق الجدد؛ لأن النظام زرع الطائفية والخوف والحقد بين جميع فئات المجتمع، وبالتالي من الضروري إبعاد شبح الطائفية، وإنشاء عقد اجتماعي جديد يوحد البلاد
على الدولة السورية الجديدة أن تشجع الاستثمار في القطاعين الزارعي والصناعي بسرعة، ما سيؤدي إلى تأمین الاحتياجات الأساسية للمجتمع وفرص العمل أيضًا، وأن تشجع الإنتاج الصناعي على مستوى إنتاج السلع الصغیرة والمتوسطة، والصناعات المتحولة، مثل: النسيج والمنتجات الغذائية، ثم تسهيل الإجراءات الجمركية والترانزيت بين الدول. ويليها توقيع اتفاقيات التعاون التجاري مع دول العالم، ومن المهم عدم اللجوء إلى صندوق النقد الدولي للاستدانة؛ لأن الدولة وقتها ستكون تحت سيفه.
التحدي السياسي هو من التحديات التي تهدد مستقبل سوريا وحاضرها؛ لأن البلاد لم تعش أبدًا حياة سياسية مستقرة منذ أكثر من نصف قرن، فقد كان هناك حزب حاكم واحد فقط من عام 1963 حتى 2024، وكان هناك رئيس واحد منذ 1971 حتى 2024، وبالتالي من الضروري إعادة بناء نهج المعارضة الحقيقية، وإنشاء قادة سياسيين حقيقيين وليسوا فقط ثوريين أو ممن كانوا مع الثورة في بدايتها؛ لأن أي فراغ سياسي في سوريا ستكون عاقبته مدمرة للبلاد.
التحدي الاجتماعي هو امتحان حقيقي لحكام دمشق الجدد؛ لأن النظام زرع الطائفية والخوف والحقد بين جميع فئات المجتمع، وبالتالي من الضروري إبعاد شبح الطائفية، وإنشاء عقد اجتماعي جديد يوحد البلاد تحت راية واحدة وفق عقيدة وطنية جديدة.
هناك أكثر من سيناريو لمستقبل سوريا؛ الأول أن تؤمّن الدول الإقليمية (تركيا وإيران والسعودية وقطر والإمارات) إلى جانب أميركا وروسيا تمكین الإدارة السورية الجدیدة من حكم الدولة، بتسوية شاملة وحوار وطني، وتكون عملية الانتقال هادئة، وتكون تركيا وقطر ضامنتين في تأمين مصالح الجميع، وخصوصًا السوريين في بلادهم.
الثاني: عدم استقرار البلاد؛ بسبب الاحتقان الشعبي الطائفي والانتقامي، سواء من عدم محاسبة فلول النظام السابق أو من عدم محاسبة من ينفذون الآن الأعمال الانتقامية، بشرط أن تكون عملية المحاسبة علنية لكلا الفريقين، وذلك إلى جانب رفض الأكراد وتمردهم ضد أي عملية سياسية في البلاد، وهذه المرحلة قد تؤدي إلى مواجهة أهلية تستمر سنوات.
الثالث: ظهور ثورة مضادة تقودها مجموعات محسوبة على النظام القديم أو جهات خارجية.
أما الرابع: فهو عودة النظام السابق بوجه جدید، ولكن هذا الاحتمال مستبعد في الوقت الحالي فقط.
من الضروري في المرحلة المقبلة العمل على تناسي الأحقاد السياسية، فما يجمعنا اليوم هو أكثر مما يفرقنا، وقد انتهى زمن من فرق كلمتنا.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.