في صرح مؤسسي عظيم، تسوده القيم والمبادئ، وتوجهه اللوائح والأنظمة، كانت الأحداث اليومية تسير بإيقاع منضبط يشهد له القريب والبعيد. لكن في لحظة فارقة، اختبر الجميع التوازن الدقيق بين العلاقات الشخصية والقيم المؤسسية، وأثبتت القيادة حكمتها في اتخاذ القرارات التي تبني ولا تهدم، وتجمع ولا تُفرق، وتقود بالعدل ولا تساوم على المبادئ.
تدخل المدير التنفيذي بحكمة وهدوء لا يتزعزع، محاولًا تهدئة الأجواء، أوضح أن الرسالة قد وردت إليه بناءً على توجيهه الشخصي، ورغم أن الحقيقة كانت غير ذلك، فإنه آثر أن يتحمل المسؤولية لحفظ العلاقة بين الأطراف
تعود القصة إلى إحدى المؤسسات الخيرية الكبرى، التي تنتشر مكاتبها في العديد من أرجاء آسيا وأفريقيا، حيث يتناغم العمل الخيري مع الالتزام الإداري الدقيق. كان الهيكل التنظيمي للمؤسسة يضم رئيسًا يقود الرؤية العامة، مع مجموعة من رؤساء الأقاليم الذين يباشرون الأعمال الميدانية، إضافة إلى مدير تنفيذي يتولى التنسيق بين الجميع لضمان انسيابية العمل وفاعليته.. كانت المؤسسة تمثل نموذجًا فريدًا في التوازن بين الإنسانية والتنظيم.
في أحد الأيام، حضر رئيس أحد الأقاليم إلى مقر المؤسسة، كان يأمل أن يجد كل شيء في مكانه، كما هي عادته، وأن يسير تواصله مع بقية الأعضاء في المؤسسة بسلاسة، لكنه عندما دخل مكتبه وتصفح البريد، وحين ألقى نظرة على إحدى الرسائل المنتظرة بفارغ الصبر، وهي رد رسمي من جهة حكومية على استفسار قدّمته المؤسسة منذ أيام، اكتشف فجأة أنه لم يجدها ضمن الملف المعتاد! اختلطت مشاعره بين الدهشة والقلق، تلاشى التريث من ذهنه، وسمح للحظة الغضب أن تتحكم في تصرفاته، بدلًا من التروي والتحقق من الرسالة بتمهل، زاد توتره.
فجأة، قرر التوجه إلى مكتب المدير التنفيذي، دخل المكتب غاضبًا دون استئذان، وكان رئيس المؤسسة يهمس في حديث مع المدير التنفيذي، ودون أن يترك رئيس الإقليم للهدوء مكانًا في صوته، صاح: " أين هي الرسالة؟ من أخذها؟ ما هذه المبالاة؟ أين التنظيم الذي ندعيه؟ كيف تُفقد رسالة بهذا الحجم؟"… موجهًا أصابع اللوم إلى السكرتير، ومطالبًا بمساءلته وكأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر! الكلمات حادة، والطريقة افتقرت إلى اللباقة واللياقة.
هنا تدخل المدير التنفيذي بحكمة وهدوء لا يتزعزع، محاولًا تهدئة الأجواء، أوضح أن الرسالة قد وردت إليه بناءً على توجيهه الشخصي، ورغم أن الحقيقة كانت غير ذلك، فإنه آثر أن يتحمل المسؤولية لحفظ العلاقة بين الأطراف، ولإعادة التوازن، لكن رئيس الإقليم أصر على موقفه، متجاهلًا أن الخطأ ليس فرديًا، بل قد يكون ناتجًا عن تداخل في الإجراءات الإدارية.
في مشهد يجسد أسمى معاني العدالة والإنصاف، برزت القيادة التي تدير بحزم وشفافية، بعيدًا عن المجاملات أو التساهل، بل بالقيم التي تجعل الجميع يقفون على خط واحد أمام النُظُم، التي تُكتب لتكون ميزانًا للحقوق والواجبات بلا تحيز
ظل رئيس المؤسسة، المعروف بحنكته القيادية، صامتًا يراقب المشهد، وعيناه تتابعان كل تفاصيل النقاش، ورغم الصداقة الوطيدة التي جمعته برئيس الإقليم، كان يعلم أن التراخي في هذه اللحظة قد يهز أركان المؤسسة وقيمها.
بعد أن خرج الحوار عن المألوف، اتخذ رئيس المؤسسة قرارًا حاسمًا بعرض الموضوع على مجلس المؤسسة في جلسة طارئة، عُرضت كل التفاصيل بشفافية بحضور رئيس الإقليم، وتم تحليل الواقعة من منظور مؤسسي بحت، بعيدًا عن العلاقات الشخصية، وبعد نقاش عميق، خلص المجلس إلى أن تصرف رئيس الإقليم لم يكن فقط تجاوزًا للمهنية، بل كان أيضًا إخلالًا بالقيم المؤسسية، وبناءً على ذلك، صدر القرار بإنهاء خدمات رئيس الإقليم، رغم مكانته وعلاقته القوية برئيس المؤسسة.
في مشهد يجسد أسمى معاني العدالة والإنصاف، برزت القيادة التي تدير بحزم وشفافية، بعيدًا عن المجاملات أو التساهل، بل بالقيم التي تجعل الجميع يقفون على خط واحد أمام النُظُم، التي تُكتب لتكون ميزانًا للحقوق والواجبات بلا تحيز.
حين تلتزم المؤسسات والأفراد بهذه الأسس، تتحقق النزاهة، ويُبنى مجتمع تسوده روح المسؤولية المشتركة، حيث يصبح احترام اللوائح ليس مجرد التزام قانوني، بل قيمة أخلاقية تعكس الرقي والازدهار، وترسخ بيئة عمل تعتمد على الكفاءة والإنجاز لا على العلاقات أو المحاباة.
وصدق من قال: "فإذا استقامت القيادة على ميزان العدل، وأدارت شؤونها دون هوى أو محاباة، غدت المؤسسات كالجسد الواحد لا يعلو فيها صوت المجاملة على صوت الحق، ولا ينفذ فيها تساهل يضعف قوة النظام".
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.