شعار قسم مدونات

تحديات التحول الديمقراطي في سوريا

رائج/ سوريا/ بمشاركة 1300 متطوع.. انطلاق حملة "رجعنا يا شام" لـ "إعادة الحياة إلى شوارع دمشق"
أصبحت سوريا أمام تحدٍّ جديد وهو التحول من الاستبداد إلى الحرية ومن حكم الفرد إلى الديمقراطية (الصحافة السورية)

بعد 14 عامًا إلا قليلًا من انطلاقة ثورة الكرامة السورية، وفي لحظة تاريخية ستكون نقطة تحول كبير لتاريخ المنطقة العربية والإسلامية، وربما العالم كله، سقط نظام الأسد، وسقطت من ورائه أعتى دكتاتورية قمعية حكمت سوريا بالحديد والنار ما يزيد عن 60 سنة، وفتحت الثورة عهدًا جديدًا من الحرية التي أريق في سبيلها دم مئات الآلاف، وأصبحت سوريا أمام تحدٍّ جديد، وهو التحول من الاستبداد إلى الحرية، ومن حكم الفرد إلى الديمقراطية.

لقد حرصت سلطات دمشق المؤقتة -والتي اكتسبت السلطة وفق الشرعية الثورية، ومنذ توليها زمام الأمور- على إرسال رسائل الطمأنة للخارج والداخل، وهو أمر يشكرون عليه، ومن أهم هذه الرسائل هو الشكل (الديمقراطي) للدولة السورية القادمة؛ وفق مبدأ عدم الإقصاء، وإتاحة الفرصة للجميع، ومبدأ الاختيار الشعبي لشكل الحكم والدستور والسلطتين التنفيذية والتشريعية، وهو -نظريًا- ما يطمح إليه جميع السوريين، وهو أهم المطالب المنبثقة من الشرعية الثورية، والتي هي الشرعية الوحيدة في هذه الفترة.

لعل التحدي الأهم هو الانقسام الأيديولوجي الحاد للمجتمع السوري، وهو ما سيجعل اختيار الناخب السوري في الغالبية العظمى مبنيًا وفق النظرة الأيديولوجية المسبقة، وليس على أساس المصلحة الوطنية والكفاءة

ولكن التطبيق العملي لهذه النقطة قد يواجه صعوبات كثيرة، يجب على السلطات الجديدة ملاحظتها، وإيجاد المخرج العملي لها قبل البدء بالتنفيذ.

إعلان

ولعلنا في هذه العجالة نستعرض أهم التحديات التي تواجه عملية التحول الديمقراطي في سوريا:

أولًا: الانقسام الأيديولوجي الحاد في المجتمع

لعل التحدي الأهم -وهو أمر تشترك فيه سوريا مع معظم دول المنطقة العربية والإسلامية في حال الممارسة الديمقراطية- هو الانقسام الأيديولوجي الحاد للمجتمع السوري، وهو ما سيجعل اختيار الناخب السوري في الغالبية العظمى مبنيًا وفق النظرة الأيديولوجية المسبقة، وليس على أساس المصلحة الوطنية والكفاءة، وهو ما يحول آليات الديمقراطية الكلاسيكية إلى آليات عقيمة إلى حد كبير، تضر بسلامة مبدأ الوصول إلى الحكم والسلطة وفق المصلحة الوطنية الحقيقية والتمثيل الحقيقي لإرادة الشعب؛ حتى لو تمت الانتخابات وفق أفضل وسائل النزاهة والرقابة.

وهذه النقطة يتشارك فيها المجتمع السوري مع معظم مجتمعات المنطقة العربية والإسلامية، التي تعتمد آليات الديمقراطية الكلاسيكية في الانتخاب؛ على أن المجتمع السوري -وبسبب سنوات الاضطهاد الطويلة في حقبة البعث البائد- يكاد يكون أكثر المجتمعات انقسامًا وفق الأسس الأيديولوجية، والدينية، والطائفية، والعرقية، وهي حقيقة يجب الاعتراف بها.

ولعله من نافلة القول، أن النهج الطائفي للنظام البائد، والقضاء على جميع المرجعيات الاجتماعية والوطنية، وغياب الحياة السياسية الحقيقية في سوريا طيلة فترة حكمه، وتحريض الطوائف والعرقيات بعضها على بعض؛ هي أكثر العوامل التي زادت هذا الانقسام، والتي ستحتاج إلى وقت طويل للشفاء تمامًا منها.

وأمام هذا التحدي الكبير يجب الانتباه -وبكثير من الحذر- إلى خطورة الانزلاق نحو (لبننة) سوريا، أو الانزلاق نحو أي نوع من أنواع المحاصصة، سواء الطائفية أو العرقية أو غيرها، وهو ما تسعى قوى كثيرة إلى فرضه بذريعة (حقوق الأقليات) ومشاركتها في الحكم؛ ولا شك أن التشارك حق لا ريب فيه، ولكن في إطار الوحدة الوطنية، وتساوي حقوق المواطنة، وليس عن طريق المحاصصة.

ولعل الاعتماد على الآليات الكلاسيكية للديمقراطية لا يتناسب مع وضع المجتمع السوري حديث العهد بالديمقراطية؛ فلا بد من تطويعها لتصبح قادرة على التعبير الحقيقي عن المصلحة الوطنية، وتقليل خطر الانقسام عليها، وهذا يحتاج إلى كثير من الجهد، بدءًا بالتوعية الشعبية، ومرورًا بسن القوانين العامة، وقوانين الأحزاب السياسية، وقوانين الانتخاب وآلياته، والتي يجب أن تحدّ من الانقسام المجتمعي، وقبل كل ذلك الاتفاق على عقد اجتماعي محكم وبعيد كل البعد عن الطائفية، أو العرقية، أو الأيديولوجية سواء الدينية أو العلمانية.

يجب على السلطات الجديدة الموازنة بين أحقية مبررات القاعدة الثورية، وبين عدم الإقصاء السياسي الذي قد يسبب عدم الاستقرار، وقد يكون ذريعة لكثير من القوى الخارجية للتدخل في الشأن السوري، أو محاولة الانقلاب على ثورته

ثانيًا: مبدأ الإقصاء الثوري

وهو تحدٍّ بدأ بالظهور بين عامة الحامل الرئيسي للثورة، وحتى بين بعض النخب الثورية ومثقفيها، وهو أمر خطير جدًا ابتليت به الكثير من الثورات، وكان سببًا كبيرًا في نشوء الدكتاتورية الثورية، والتي أخرت أو قضت نهائيًا على مكتسبات بعض الثورات وأهدافها، ولعل المطّلع على أحداث ما بعد الثورة الفرنسية أو البلشفية يدرك تمامًا المقصود، وقد بدأت بالفعل أصوات تعلو هنا وهناك لإقصاء الصامتين، أو الموالين، أو حتى بعض المنصات المحسوبة على الثورة كائتلاف قوى الثورة والمعارضة السورية، أو هيئة التفاوض السورية.

إعلان
  • ولعل أعظم مبررات ظهور هذا المبدأ أمران اثنان:
  1. المبرر الأول: هو (الخوف على المكتسبات الثورية) من تسرب النظام البائد، أو إحدى أدواته التي صنعها على مدار سنين طويلة، ولعل ما يزيد هذا الخوف ويبرره هو عظم التضحيات التي قدمت من قبل القاعدة الثورية.
  2. المبرر الثاني: هو (الإحساس بالغبن) من قبل القاعدة الثورية تحملت قدرًا هائلًا من العذاب والقهر والقتل والتدمير والتشريد حتى انتصرت الثورة؛ في مقابل الطبقات الرمادية، أو الصامتة، أو اللامبالية، أو حتى الطبقة الموالية للنظام البائد، والتي تراها تستعد جميعها للدخول في المعترك السياسي لسوريا الحرة دون أي تضحيات تذكر، وبالتساوي مع القاعدة الثورية المنتصرة.

ورغم الطمأنات والتصريحات الإيجابية لسلطات دمشق الحالية، لا تزال هذه المشكلة من أعظم ما يهدد البناء الصحيح لمستقبل سوريا الحرة.

والحقيقة أن المبرّرات آنفة الذكر محقة بشكل كبير، ويجب أن تؤخذ بعين الاعتبار، ولكن يجب ألا تكون سببًا لأي شكل من أشكال الإقصاء السياسي غير المحق، أو الإقصاء الذي قد يهدد الاستقرار في الدولة على المدى القريب أو المتوسط أو البعيد.

والحقيقة أنه يجب على السلطات الجديدة الموازنة بين أحقية مبررات القاعدة الثورية، وبين عدم الإقصاء السياسي الذي قد يسبب عدم الاستقرار، وقد يكون ذريعة لكثير من القوى الخارجية للتدخل في الشأن السوري، أو محاولة الانقلاب على ثورته.

ولعل أحد الحلول وأهمها هو سرعة تنظيم وسن القوانين المتعلقة بالمشاركة السياسية، والتي تتيح بشكل قانوني وعادل مبدأ العزل السياسي لكل من هو من مخلفات النظام البائد، أو من هو خطر على المكتسبات الثورية؛ دون التأثير على استقرار الدولة، أو الإقصاء السياسي غير العادل.

هناك تساؤلات جدية تطرح حول قدرة إقناع هذه القيادات لقواعدها من الذين تربوا لمدى سنين طويلة على أيديولوجيا مختلفة تمامًا، وقاتلوا كثيرًا من فرقائهم بحجة مخالفتها

ثالثًا: إقناع عامة الأتباع بالفكر الديمقراطي

وهو تحدٍّ يخص النواة العسكرية والمدنية والشرعية لهيئة تحرير الشام، والمقاتلين المنتمين لها، وكذلك المقاتلون المنتسبون لمجموعات إسلامية أخرى قاتلت معهم، فهؤلاء هم نواة التحرير وشوكة الدولة الناشئة.

إعلان

ولا شك أن المراجعات الفكرية، والنهج الذي نراه اليوم من السيد أحمد الشرع، ومن بعض القيادات المتصدرة للمشهد من هيئة تحرير الشام، كان مفاجئًا للجميع؛ سواء في ذلك النخب الثورية ممن خبروا هيئة تحرير الشام لسنوات طوال، أو الخارج.

فالكثير من التصرفات والأوامر والتصريحات التي تصدر عن السيد أحمد الشرع وحكومته كانت لفترة قريبة من المحرمات القطعية لديهم. والحقيقة أن الأمر مبعث للسرور والفرح لدى النخب الثورية، التي حاولت طيلة سنوات إقناع هيئة تحرير الشام بالكثير من القضايا والأمور التي تقوم هي بها حاليًا؛ بعدما تراجعت عن أخطائها.

ولكن، بالرغم من كل ذلك ما زالت هناك تساؤلات جدية تطرح حول قدرة إقناع هذه القيادات لقواعدها من الذين تربوا لمدى سنين طويلة على أيديولوجيا مختلفة تمامًا، وقاتلوا كثيرًا من فرقائهم بحجة مخالفتها.

كما أن وجود مجموعات متطرفة (كحراس الدين وقياداتهم) هو أمر مقلق تمامًا، وإن كيفية التعامل مع هؤلاء، ومجابهتهم على الصعيد الفكري، وحملهم على الرجوع عن أفكارهم، هو ما سيحدد قدرة القيادة الجديدة على تنفيذ الوعود التي يطلقونها في التحول لدولة مدنية ديمقراطية.

والحقيقة أن المتابع لمسيرة السيد أحمد الشرع منذ تشكيله لـ"جبهة النصرة" سابقًا، وقدرته على سلخ هذه الجماعة من قيد "الدولة الإسلامية"، ثم من "القاعدة"، ثم تحييد منافسيه من الفصائل؛ يدرك تمامًا مدى براغماتية الرجل، وذكائه، ونظرته المستقبلية الثاقبة، وقدرته على الاستفادة من الظروف المحيطة به لتحقيق أهدافه، وهذا ما يعول عليه في حل هذه المعضلة.

كما أن حل "هيئة تحرير الشام" وبقية الفصائل، ودمجها في جيش وطني يقوم على التراتبية العسكرية، وإلغاء الولاءات الفصائلية والفردية، سيساعد أيضًا في تجاوز هذا التحدي إلى حد كبير.

لا بدّ أن سلطات دمشق تدرك تمامًا ذلك، ويجب عليها العمل على نقاط ضعفهم، والبناء عليها لكسب المعركة التي لا بدّ منها، فلا ريب أن أي حلول دبلوماسية وسطية ستؤدي لكارثة ستعاني منها سوريا طويلًا

وجود "قسد" وارتباطها بحزب العمال الكردستاني الإرهابي

والحقيقة أن "قسد" قوة مسلحة كبيرة لا يستهان بها، تسيطر على منابع النفط، وعلى أراضي سوريا الخصبة  شرقي الفرات، التي تهدد بشكل مباشر وحدة سوريا واستقرارها ونهضتها الاقتصادية، وتهدد أيضًا التحول الديمقراطي الحقيقي في سوريا، في حال ظلت محتفظة بحكمها الذاتي، أو تم دخولها ككتلة تتقاسم السلطة مع السلطات الحالية بدمشق.

إعلان

كما أن الحسم العسكري ضد قسد معقد بعض الشيء لسببين:

  • وجود القوات الأميركية الحليفة لقسد، والدعم السياسي المقدم من الولايات المتحدة وإسرائيل وبعض الدول الغربية لهم.
  • تنظيمهم العسكري القوي والإداري المتين، والكم الكبير من السلاح المتطور بحوزتهم، ووجود موارد اقتصادية لا يستهان بها لديهم.
  • اتصالها بمركز القيادة الفعلية في جبال قنديل.

ولابد أن سلطات دمشق تدرك تمامًا ذلك، ويجب عليها العمل على نقاط ضعفهم، والبناء عليها لكسب المعركة التي لا بد منها، فلا ريب أن أي حلول دبلوماسية وسطية ستؤدي لكارثة ستعاني منها سوريا طويلًا.

ومن أهم النقاط التي يجب البناء عليها للحسم العسكري التام:

  • الحاضنة الشعبية الموالية للثورة والمعادية لقسد في معظم مناطق سيطرتهم، والتي هي ذات أغلبية عربية عشائرية.
  • القدرة على التعاون العسكري المباشر (ذي الصبغة الشرعية قانونيًا بعد سقوط نظام المخلوع) مع تركيا.
  • التغيير المتوقع تجاه دعم قسد في ظل إدارة الرئيس ترامب.
  • التعاون مع المجلس الوطني الكردي، لاستمالة الحاضنة الشعبية الكردية في المناطق ذات الأغلبية الكردية، وطمأنتهم، وضمان حقوقهم الدستورية.
  • تقديم البديل الجاهز لشريك التحالف الدولي في محاربة تنظيم الدولة، لنزع شرعية وذريعة وجود قسد العسكري.

ولا بد من القناعة التامة بأن أي شيء غير الحسم العسكري التام في تلك المنطقة، والقضاء التام على تنظيم "قسد"، هو كارثة حقيقية على مستقبل سوريا كدولة حرة وديمقراطية وموحدة.

وفي النهاية، فإننا ندرك تمامًا وجود تحديات كبيرة جدًا في طريق بناء الدولة عامة، وفي طريق تحولها الديمقراطي على وجه الخصوص، وقد تكون التحديات أكثر مما ذكرناه هنا، وخصوصًا مع غياب فعلي لأي نشاط سياسي حقيقي في سوريا لأكثر من نصف قرن من الاستبداد.

ولكننا أردنا في هذه العجالة تسليط الضوء على أهم التحديات وأكثرها إلحاحًا – والتي إن تم تلافيها وتجاوزها سيتم بلا أدنى شك تجاوز العقبات الأخرى بسهولة – في طريق بناء سوريا الحرة والمستقلة والموحدة والديمقراطية.

إعلان

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان