شعار قسم مدونات

الإدارة السورية الجديدة بين ضغط الخارج واستحقاق الداخل

قائد الإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع يلتقي وفداً من الطائفة المسيحية في مدينة دمشق - المصدر: الصفحة الرسمية للوكالة العربية السورية للأنباء - سانا
قائد الإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع يلتقي وفداً من الطائفة المسيحية في مدينة دمشق (سانا)

أحدثت التغيرات والانتصارات لقوى الثورة السورية انتقالًا وتحولًا دراماتيكيًا على المستوى العسكري والجيوسياسي؛ ما أحدث اهتزازًا وانزياحًا في الخارطة السياسية والأمنية والعسكرية في جغرافيا الشرق الأوسط، ومعادلاته الإقليمية الجديدة.

وكان هذا التحول والتبدل كبيرًا وهائلًا على مستوى الخارج والداخل، إذ بدت بذور التحالفات الإقليمية بالتشكل والتبدل بين اللاعبين الإستراتيجيين والدوليين وبسرعة استثنائية، حيث طفق الأتراك بسرعة يملؤون الفراغ السياسي والعسكري والأمني، وتدفق الأميركيون على إثرهم باعتبار النجاح السوري هزيمة إستراتيجية لحلفاء بشار الأسد من الروس والإيرانيين، العدوين اللدودين للولايات المتحدة، وللغرب وغالبية الدول العربية.

وبعد ذلك بدا التدفق الأوروبي ملحوظًا وكبيرًا ومبارِكًا لعملية التغيير، وفي نفس الوقت خائفًا ومتوجسًا من طبيعة الحكام الجدد ذوي النزوع الراديكالي تاريخيًا، والمصنفين على قوائم الإرهاب الدولية، ولكن الأوروبيين بدَوا مسارعين لأنهم لا يريدون استئثار الأتراك بالمبادرة والحصة الإستراتيجية والاقتصادية الكبرى، فلم يكن لهم بد من التحرك العاجل، ورسم بواكير علاقة أولية مع الإدارة الجديدة في دمشق.

إعلان

وهذا ما جعل الدول العربية المعنية بالحقل السوري – من دول الطوق ودول الخليج العربي- تتسارع مع السيل الأوروأميركي والتركي؛ بحثًا عن مزيد من الدور الجديد والشراكات الممكنة، وكذلك بحثًا عن الضمانات الأمنية بعدم الإضرار بأمنها القومي ومصالحها الإستراتيجية في المنطقة، والاطمئنان بأن واقع التغيير الثوري والانتصار العسكري غير قابل للتصدير بشكل ممنهج من الإدارة الإسلامية الجديدة.

الخوف من طبيعة النظام الجديد هو المعيار الخفي، والبوصلة الأساسية الموجهة للضغوط والمطالب والاستحقاقات تجاه إنجاز الدستور والانتخابات وحماية الحقوق، ومشاركة الأقليات في الحكم مع السلطة الجديدة

فضلًا عن أن بعض الدول الإقليمية لا تريد أن يكون للأتراك النصيب الموفور في تحالف سوري تركي، يكون بديلًا عن التحالف الإيراني مع نظام الأسد على حساب العمق والمصالح العربية والإستراتيجية المشتركة، رغم تقديرهم بأن النموذج السوري الجديد فك عنهم تهديدًا وحصارًا طويل الأمد وبالغ التعقيد، ونسف المشروع الإيراني في سوريا، وأضعفه وحاصره في لبنان، ما هيأ الخارطة السياسية السورية واللبنانية لتحالفات إيجابية مختلفة إقليميًا ودوليًا.

بيدَ أن كل هذه المكاسب والإنجازات تظل من وجهة نظر الأوروبيين والأميركيين محفوفة بمخاطر مستقبلية، سياسية وحقوقية وعسكرية، ومن أهمها طبيعة العلاقة المستقبلية مع أمن إسرائيل، وكيفية حل هذه الهواجس الصهيوأميركية بين الإدارة الجديدة من جهة، وبين إسرائيل وحليفتها الأميركية من جهة أخرى، وكذلك مسائل حقوق الأقليات، وطبيعة نظام الحكم المنظور والمتوقع، والأجندة السياسية المقبلة، وعدم تصدير الإرهاب، والمشاركة في محاربة تنظيم الدولة، وإيقاف نزيف الهجرة السورية إلى أوروبا.

ورغم أهمية كل ذلك، فإن الخوف من طبيعة النظام الجديد هو المعيار الخفي، والبوصلة الأساسية الموجهة للضغوط والمطالب والاستحقاقات تجاه إنجاز الدستور والانتخابات وحماية الحقوق، ومشاركة الأقليات في الحكم مع السلطة الجديدة.

ومن المعهود في تجارب سابقة أن الولايات المتحدة والدول الأوروبية لا تزيل العقوبات دفعة واحدة، للاطمئنان والتأكد من السلوك السياسي للنظام، وأن هذه العقوبات هي ورقة للمساومة والضغط أكثر مما هي مطالب حيوية وحقيقية بالحرية والحقوق والمشاركة السياسية؛ لأن هذه الدول في خطها البياني تريد دائمًا علاقات مستقرة مع دكتاتوريات مستقرة، تنفذ لها مصالحها الدائمة، وتلتزم بالإملاءات والوصايا المباشرة، وهذا أحد أكبر الأسباب التاريخية للعلاقة مع الدول العسكرتارية، والملكيات المستبدة استبدادًا مطلقًا، في المنطقة العربية وغيرها من دول العالم.

إعلان

وبهذا الاعتبار ستظل المطالب والشروط الغربية مفتوحة ومستمرة، وأحيانًا تعجيزية، وهنا تكمن قدرة النظام الجديد على تحقيق التوازن بين المصالح الضرورية والمشتركة للشعب السوري، وبين خصوصيات المطالب الغربية اللامتناهية، وخاصةً في عملية تخفيف العقوبات وإيصال المساعدات.

دروس التاريخ تثبت أن الاستبداد والتفرد في السلطة والحكومة يعيد وينتج تحالفات ضارة وخطيرة على المجتمع والدولة؛ وعلى الحاكم والمحكوم، من جهة النماذج المهمشة والعلمانية المتشددة، التي تريد أن تعصف بمكاسب الثورة والأمة

إنها آليات ووسائل الغرب لتطويع الأنظمة المتمردة أو المخيفة له، وهنا تكون الإدارة الجديدة بحاجة إلى إستراتيجية الثوابت ومرونة المتغيرات، واتباع سياسة الخطوة بخطوة على أساس المصالح والمنافع المشتركة بيننا وبين الغرب، ولكن دون تمكين الآخرين من رسم معالم المشهد السياسي المستقبلي، والتلويح بورقة الأقليات، والتحكم في قواعد العملية السياسية الكبرى القادمة في البلاد؛ لأن هذا الاستحقاق السياسي والانتخابي هو حق حصري للشعب السوري، وقرار سيادي غير قابل للمشاركة والإملاء.

إلا أن ذلك لا يمكن حدوثه، ولا يمكن الصمود أمام المطالب والاحتياجات، إلا بامتلاك الإدارة الجديدة شرعية حقيقية وسندًا مجتمعيًا يكون ظهيرًا لهذه السلطة، حتى تستطيع الصمود أمام إكراهات وإرهاقات المجتمع الدولي.

وهذا السند لا بد أن يكون من القوة المجتمعية والشعبية التي تمثل الخزان التاريخي والحضاري والديمغرافي الحقيقي المساند للحكومة القائمة أو القادمة، وهو الخزان الأكبر في البلاد بقواه المجتمعية والحزبية والنخبوية، وبجميع روافع العمل السياسي والاجتماعي والتنموي من الشخصيات والقوى والأحزاب والتيارات.

ولا بد من إتاحة المشاركة السياسية الفاعلة لهذه القوى، التي تشكل الكتلة الصلبة في محور التغيير والاستقطاب الإيجابي، ولكن على أساس الانصهار والتقارب والتشارك في الفعل السياسي والحكومي، وألا تكون الفئوية الأيديولوجية هي معيار العلاقة والتفاعل بين المجتمع والحكومة، بل مشاركة ومؤازرة الكل الثوري والكل المجتمعي بأطيافه الوطنية الحية والفاعلة تاريخيًا ومستقبليًا في الحقل السوري.

إعلان

وهو حقل ذو خصوصية وهوية حضارية وثقافية حاضنة لجميع السوريين، دون إقصاء أو تهميش للمكونات الإثنية والقومية والوطنية الأخرى، لأنها جزء من النسيج والإطار الحضاري لهذا البلد العريق.

ولكن دروس التاريخ تثبت أن الاستبداد والتفرد في السلطة والحكومة يعيد وينتج تحالفات ضارة وخطيرة على المجتمع والدولة؛ وعلى الحاكم والمحكوم، من جهة النماذج المهمشة والعلمانية المتشددة، التي تريد أن تعصف بمكاسب الثورة والأمة، كما حصل في تجارب مجاورة، ولن يجد الغرب – بشقيه الأوروبي والأميركي- والدول المتربصة فرصة سانحةً مثل الانشقاق المجتمعي والاحتراب القومي والإثني، لتوظيفه وإعادة إنعاشه في عملية التفتيت والانقلاب.

وكل ذلك رهن بمدى تشكيل النواة الصلبة للدولة والمجتمع، وذلك من خلال الحامل الاجتماعي الثقافي القوي والمتميز، الذي يحافظ على الوحدة وعلى مشروع الدولة، ولا يذيب الخصوصيات الدينية والقومية، بل يصبح معه التعدد والتنوع داخل المشروع الحضاري والسياسي تنوعًا إيجابيًا مثمرًا وفاعلًا، وداعمًا للهوية الحضارية والثقافية للعرب والمسلمين.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان