شعار قسم مدونات

وإن أخرست الحرب مدافعها من يعيد لغزة ملامحها؟

تعاني بلدية غزة من نقص الدعم والذي يؤثر على استعداداتها لاستقبال النازحين المصدر: : قسم الإعلام في بلدية غزة
الكاتبة: عندما يهدأ صوت الحرب سيرتفع صوت الجرافات وهي تسير فوق الركام لتنزيل الخراب وتبعث البيوت من رمادها (بلدية غزة)
  • صمت صاخب

حين تصمت المدافع ويخفت أزيز الطائرات وتبتلع البنادق رصاصها، تطلق الأرض زفيرها الأول بعد اختناق طويل برائحة الدماء والبارود. ويعلن وقف إطلاق النار فيتصافح الساسة فرحين أمام الكاميرات متوهمين أنهم نجحوا في وضع حد لمأساة الحرب، لكن الحقيقة أكثر تعقيدًا من ذلك.

فالحرب ليست فقط دمارًا ماديًا بل هي جرح نفسي عميق لا يندمل بسهولة، ويخلف ندبة تظل شاهدة على وحشية الإنسانية. ففي غزة كما في كل مكان اجتاحته الحرب يصعب استئصال ورم اسمه الذاكرة من الناجين، فمن يعيد لطفل بريء الطفولة المسروقة منه؟. ومن يعيد لفتاة شرفها المهدور تحت أقدام الجنود؟. وكيف نقنع أمًا تحدق في الطريق بأن ابنها لن يعود؟.

وكيف نساعد أبًا يحاول إسكات صرخات أطفاله التي تلاحقه في كل مكان؟. الحرب لا تنتهي برمي السلاح وإخراس صوت المدافع، بل يبدأ فصل جديدٌ من هذه الحرب مع الصمت، حين يواجه الناجون ذكرياتهم المشوهة، صمت صاخب بصراخ الراحلين لا يشعر به سوى أولئك الذين شهدوا ويلات القتل والدمار.

إن كل ما وقع في غزة من جرائم إنسانية يجعل من التعافي النفسي للناجين أمرًا صعبًا يتطلب الكثير من الوقت وهذا هو ما يشكل الوجه الآخر للحرب!

جروح نفسية

إن التاريخ مليء بشواهد على أن آثار الحروب النفسية قد تكون أكثر قسوة من دمارها المادي، ففي أعقاب الحرب العالمية الثانية واجه ملايين الأشخاص في أوروبا صدمات نفسية تركتهم أسرى كوابيس الحرب لعقود طويلة.

إعلان

فالناجون من مجازر الحرب خاصة الأطفال يواصلون حياتهم بعاهات نفسية عميقة. أما في غزة التي تعاني الإبادة والمحارق والحصار والمجاعة، يولد الأطفال وهم يحملون ندوب الحرب في قلوبهم وعقولهم.

فمن فقدوا آباءهم وأمهاتهم أو تعرضوا للاعتداء أو الاستغلال أو فقدوا أحد أطرافهم، هم الأكثر عرضة لاضطرابات ما بعد الصدمة والخوف المزمن وتأخير النمو العقلي والبدني. فيكبرون معزولين عاجزين عن بناء روابط اجتماعية وتتحول ذكريات الحرب إلى كوابيس تلاحقهم في اليقظة والمنام.

أما البالغون فرغم قدرتهم الكبرى على التحمل إلا أنهم لا ينجون من تداعيات الحرب النفسية ويمارسون الكبت لمشاعر الحزن والألم من أجل عائلاتهم وأطفالهم خاصة الرجال منهم، مما يسبب عقدًا نفسية وأمراضًا جسدية، هذا إضافة إلى الأسرى الفلسطينيين الذين يعانون تحت وطأة التعذيب فأولئك الأكثر عرضة بعد الأطفال إلى الأمراض النفسية، خاصة اضطراب ما بعد الصدمة وفقدان النطق المؤقت والخوف المرضي ونوبات الهلع، وكل هذا وأكثر تفيض به عيون "بدر دحلان" الأسير المحرر الذي خرج ليروي قصة عذاب الأسرى الفلسطينيين خلف القضبان وتلك قصة أخرى أشدّ ألمًا.

إن كل ما وقع في غزة من جرائم إنسانية يجعل من التعافي النفسي للناجين أمرًا صعبًا يتطلب الكثير من الوقت، وهذا هو ما يشكل الوجه الآخر للحرب، ففي كل بيت مهدم قصة، وفي كل شارع منكوب ذكرى لا يكفي الإعمار لمحوها.

لا بد من أن ترتفع المنازل من جديد لكن يجب عدم اعتبار ذلك نقطة النهاية وأقصى ما يجود به الأقوياء لأهل غزة، فلا شيء يضاهي الحرية حتى لو سكنت الشعوب المستعمرة قصورًا من ذهب

إعمار وحرية

عندما يهدأ صوت الحرب، سيرتفع صوت الجرافات وهي تسير فوق الركام لتنزيل الخراب وتبعث البيوت من رمادها فتبدأ جهود إعادة الإعمار، ستبنى المنازل من جديد وسترصف الشوارع. لكن كل حجارة سترفع قد تكشف عن أشلاء وجثث.

سيبقى باردًا جدًا مثل رياح يناير. وتلك الجدران الجديدة مهما كان سمكها لن تستطيع أن تمحو صدى صراخ الأطفال الخائفين. لا بد من أن تعمر الأرض ثانية وأن ترتفع المنازل من جديد لكن يجب عدم اعتبار ذلك نقطة النهاية وأقصى ما يجود به الأقوياء لأهل غزة، فلا شيء يضاهي الحرية حتى لو سكنت الشعوب المستعمرة قصورًا من ذهب تظل تتخبط كطائر يريد الفرار من القفص، تطمح للعيش في أرضها بسلام حتى لو افترشت هذه الأرض والتحفت سماءها.

غزة اليوم ليست سوى رمز للمعاناة الإنسانية التي تتجدد مع كل قذيفة ومع كل هدنة تعجز عن تضميد جروح الأهالي فلا شيء يضمد هذه الجروح سوى وصفة سحرية اسمها الحرية

نزيف داخلي

إن قرار وقف إطلاق النار سيوقف نزيف الدماء من الخارج فقط، أما النزيف الداخلي سيظل حتى يتعافى أهل غزة من ذكرياتهم.

إعلان

ربما ستتوقف آلة القتل لكن الحياة لن تعود لطبيعتها. فالحرب ليست شيئًا ينتهي بتوقيع اتفاقات، بل هي لعنة تلاحق الناجين لعقود، فالطفل الذي عاش تحت القصف لن يعود طفلًا طبيعيًا حتى لو توقفت أصوات المدافع. والشابة التي فقدت كرامتها لن تمحو وثيقة ألمها، ويظل السؤال وإن أخرست الحرب مدافعها من يعيد لغزة ملامحها؟ تلك الملامح التي تلاشت مع التفجيرات والقتل والدمار.

إن وقف إطلاق النار رغم أهميته في إنقاذ ما يمكن إنقاذه لا يمكنه أن يشفي الآثار النفسية للمتضررين حيث يظل الألم محفورًا في الذاكرة، يتجدد مع كل لحظة وتظل الحرب شهادة على وحشية الجلاد ولعنة تلاحق الضحية.

وغزة اليوم ليست سوى رمز للمعاناة الإنسانية التي تتجدد مع كل قذيفة ومع كل هدنة تعجز عن تضميد جروح الأهالي، فلا شيء يضمد هذه الجروح سوى وصفة سحرية اسمها الحرية.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان