شعار قسم مدونات

البودكاست العربي.. بديل لإعادة بناء القيم

بودكاست غيتي
يلاحظ المهتم بالمحتوى الرقمي عمومًا أن البودكاست العربي هو الآخر يعيش ذروة عطائه ويحصد آلاف المشاهدات (غيتي إيميجز)
  • عودة بعد وباء

تقول دراسات إعلامية، أُجريت في عام 2020 أثناء انتشار وباء كورونا، إن المحتويات المسموعة كانت الأكثر رواجًا بين الجماهير المستخدمة للشبكة حينها، وإن مبيعات الشركات المُعدة للبودكاست كانت خيالية خلال تلك الفترة.

واستمر انفتاح رواد المنصات الرقمية على فن البودكاست تدريجيًّا، خصوصًا المرئي منه، والذي يشتهر اليوم بوجود مذيع وضيف يسردان أفكارهما حول شتى الموضوعات والمجالات بسلاسة وعفوية.

أثناء فترة الحجر الصحي، الذي فرض على البشر بسبب فيروس كورونا، وجد الناس ضالتهم في فن الاستماع كبديل عن الضوضاء التي يعيشونها في أيام العمل الخارجية العادية؛ فالانقطاع عن العالم الخارجي فجأة، والتواجد داخل المنازل، كانا كالفطام عن التواصل المعتاد لبعضهم مع بعض.

استمر نجاح هذه الوسيلة التواصلية الجماهيرية إلى الآن، بل يلاحظ المهتم بالمحتوى الرقمي عمومًا أن البودكاست العربي، هو الآخر، يعيش ذروة عطائه ويحصد آلاف المشاهدات، رغم ساعات المشاهدة الطويلة مقارنة بقصر مدة المحتوى الجذّاب في هذا العصر.

لماذا لا يكون هناك فيلسوف عربي يمكن أن نتخذ بعضًا من نظرته للعلاقات والإنسان ونفسه منطلق صياغة محتوى يعكس واقعنا وتجاربنا؟

رحلة المتلقي العربي بين التناقضات والقيم

لكن ما يثير الانتباه بخصوص الموضوعات المطروحة للجماهير العربية هو التطرق، في أغلب المرات، إلى علم النفس وتنمية الذات البشرية.

إعلان

هذا الأمر بالنسبة للمشاهد العربي قد يكون مهمًّا بلا شك؛ فهو يستمع اليوم ويرى من يفسر بعض الحالات التي عاشها، أو يتلقى أفكارًا تعبر عنه بشكل أكبر ربما من تلك التي اعتاد عليها بكثرة خلال التعرض للمحتوى السمعي البصري القادم من الغرب، محملًا بألغام فكرية أيضًا طوال الأعوام الماضية.

بحديثنا عن تنمية الذات وفهم النفس البشرية، يبدي كثير من الضيوف تأثرًا عميقًا بفلسفة المنظّرين الغربيين أمثال فرويد في فهم مكنونات الإنسان، أو كذلك نيتشه، وهما يشتركان في نقاط عدة تصب في مفهوم موحد، وهو أن الإنسان كائن مادي وحيلي منذ نشأته.

فرويد، مثلًا، يقول إن الرضيع له دوافع شهوانية منذ الصغر، وإنه بجانب أمه لا لحاجته الفطرية لها رغم ارتباطه بها، بل لشهوة تتزايد كلما كبر. هذا مثال بسيط عن بعض الأفكار التي عالجتها بعض الحلقات، ممجدة لهذه الرؤى، واضعة إياها في إطار نرجسية الإنسان الطبيعية التي يولد بها. في حين أن المتلقي العربي، الذي نشأ في بيئة فلسفية أخرى، تتسم بعلم نفس مبني على قواعد مختلفة، قد تخلق لديه هذه الأفكار نوعًا من التناقض وضبابية الرؤية حول ذاته.

فالفيلسوف الغربي الذي مات منتحرًا، مثلًا، لماذا لم ينتهِ به الأمر إلى فهم ذاته والتعامل مع مكنوناته؟ وإن كانت أفكاره منطلقًا نورانيًا غير مظلم يدعو للحياة أكثر من الكآبة، فلماذا يجب أن نصر عليها بالدرجة الأولى؟ ولماذا لا يكون هناك فيلسوف عربي يمكن أن نتخذ بعضًا من نظرته للعلاقات والإنسان ونفسه منطلق صياغة محتوى يعكس واقعنا وتجاربنا؟ في الحقيقة توجد بدائل أخرى لبناء القيم أمام هيمنة المادية الغربية.

الدكتور عبد الوهاب المسيري ترك خلفه ترسانة من الفكر وأسرار البناء الغربي لحضارة قائمة على علوم جافة؛ يعود فيها الإنسان بلا قيم أو جمالية، تائهًا في أفكار سوداء

البديل الهادئ في مواجهة ضجيج الفكر المادي

يشرح الدكتور مصطفى محمود في كتابه "أسرار من القرآن" نظرة البؤس والخواء لدى فرويد، ويرد على الكثير مما جاء في إسقاطاته قائلًا:

"وكيف لا تنتهي الفرويدية إلى الفشل، وهي القائلة باستحالة تغيير النفس وتبديلها، وبأن النفس تتشكل في سنوات الطفولة الأولى، ثم تصبح قدرًا لصاحبها لا خلاص منها؟ وماذا أَبقت لنا هذه النظرة سوى العلاج بالمسكنات والمراهم الخارجية؟ لقد انتهى علم النفس الحديث إلى الفشل لأن منطلقاته معظمها خاطئ، وكان أكبر أخطائه أنه ليس علمًا. كما أن الماركسية لم تكن قط علمًا، وإنما هي مجموعة أفكار ظنية. كما أن علم النفس الحديث هو الآخر مجموعة أفكار ظنية، وهذا ما أورثتنا الحضارة المادية من ظنون وأوهام".

إعلان

ويضيف أن الفرق بين علم النفس ونظرة الدين هو افتقاد علم النفس للشمول والنظرة الواسعة الكلية، وسجنه لنفسه داخل إطار الخبرة المادية والدنيا المادية واللذة المادية.

أما الفيلسوف طه عبدالرحمن، فيتفنن هو الآخر في معالجة مواضيع الحداثة وعلاقتها بالإنسان، ويشرح تمركز الإنسان حول الإنسان في كتابه "سؤال الأخلاق" قائلًا:

"إنه لا مجال للشك في أن كانط أقام نظريته الأخلاقية العلمانية على قواعد دينية مع إدخال الصنعة عليها، حيث استبدل الإنسان مكان الإله مع قياس أحكامه على أحكامه؛ فإذن ليس لهذه النظرية من وصف العلمانية إلا الظاهر، بحيث تصير العلمانية هنا عبارة عن ديانية خفية مثلها مثل الديانية الجلية في الأخلاق المُنزلة، لا تفترق عنها إلا في أن المستحق للتعظيم فيها صار هو الإنسان العيني، وليس الإله الغيبي".

والدكتور عبدالوهاب المسيري ترك خلفه ترسانة من الفكر وأسرار البناء الغربي لحضارة قائمة على علوم جافة؛ يعود فيها الإنسان بلا قيم أو جمالية، تائهًا في أفكار سوداء.

مسار آمن

على العموم، أعتقد أن الأجيال العربية، وسط كل هذا الزخم المعرفي، وبعد كل هذه المراحل التي عاشتها، تبحث بلا شك عن مسار موثوق يشرح ذاتها، ويتماشى مع القيم التي تميزها عن الآخر، لا بإدخالها متاهات عصرية جديدة تُعدد الشخصيات بداخلها.. محتوى قريب جدًا من الوطن، إذا شاهده المغترب دفِئ، وإذا شاهده المقيم زاد تمسكًا بهويته وبنبل منطقته ومساحته من هذا العالم.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان