شعار قسم مدونات

تكنولوجيا المراقبة وجدلية الخصوصية والأمان

تلعب تطبيقات وبرامج الهواتف الذكية دورا كبيرا وحيويا في حياة كل رائد أعمال
التكنولوجيا صارت أشبه بالهواء المُتنفَّس اليوم، وهي ذات أوجه إيجابية كثيرة، ولها القدرة على تغيير الكثير من أوجه حياة البشر نحو الأفضل شرط إدارتها بطريقة ذكية (غيتي)

شيئًا فشيئًا، وبوعي أو بغيره، تسللت التكنولوجيا وتقنياتها الناعمة إلى حياة البشر، وصارت تعرف عنهم ما لم تكن تحلم به – قبل عقودٍ خلت- الأنظمة الأمنية للدول، رغم ما كرّسته من مواردَ لترصد حركة البشر وحديثهم، وتعد أنفاسهم إن أمكن.

فعن طريق تقنيات الهاتف الجوال وتطبيقاته تتعرف على أماكن تواجد الناس حركةً وسكونًا، وأنماط تحركاتهم في اليوم والليلة، وتعد دقات قلوبهم ومعدلات تنفسهم، وتمتلك المقدرة على التنصت على أحاديثهم، وما ينفقون من الأموال، وفيما وأين ينفقونها.

أصبح هذا المستوى من التغول على الخصوصية إما مقبولًا، أو لا فكاك من قبوله للتمتع بما توفره هذه التقنيات من فوائد. وبما أن هذه الفوائد معظمها مجاني فيمكن القول إنَّ السلعة هنا يشكلها البشر أنفسهم، وما تحمله حيواتهم اليومية من تفاصيل.

ولأن الدول وأجهزتها الأمنية تعتبر نفسها القيِّم على التفاصيل، فكان لا بد لها أن تدخل على الخط، لا لتحمي من الجريمة وحسب، ولكن لحماية حق البشر في الخصوصية. وبما أن هذين المفهومين (الأمن والخصوصية) يحملان شيئًا من التناقض، يظل هنالك جدال دائم عن مدى المستوى المقبول من المراقبة، الذي ستذعن إليه مجتمعات تسود فيها قيم الديمقراطية والحريات الشخصية، وينشط فيها المدافعون عن الحق في الخصوصية، وحق المجتمعات والأفراد في التعبير عن أنفسهم دون الإحساس بالتهديد!

يعتبر كثيرون قانون حقوق الإنسان المعيار الرئيس، الذي يُعتمد عليه لحسم الجدل حول تموضع نقطة التوازن بين واجب مؤسسات الدولة في حفظ الأمن، وحق الأفراد والمجموعات في التمتع بالحريات

تناسبية تقنيات المراقبة مع مبدأ الشعور بالخصوصية

إعلان

من الصعب التكهن في نقاش حر عن الحريات الشخصية مقابل توفير الأمان، تحديد إلى أي كفة سيميل الميزان، وأين تكمن نقطة التوازن! ولكن، لا شك أن طبيعة التقنيات المستخدمة وتفاصيل طُرق وأُسس عملها سيكون عاملًا حاسمًا.

يعبِّر كثيرون عن عدم شعورهم بالانتقاص من حرياتهم في حياتهم اليومية من مبادئ المراقبة الروتينية في طرق المرور السريعة، أو المطارات، أو مراقبة الإنترنت، أو وسائل التواصل الاجتماعي، مع اعترافهم الضمني بأنه من الصعوبة بمكان التفاعل مع مكونات الحياة العصرية بدون التخلي عن بعض المعلومات الشخصية اضطرارًا وليس اختيارًا.

أضف إلى ذلك أن الموافقة المسبقة على استخدام البيانات الشخصية يمكن اعتبارها موافقة مزيفة من المستخدمين؛ لأن ذلك هو السبيل الوحيد لاستخدام التقنية، وفي أحيان كثيرة قد لا يقابلها احترام كامل من الطرف الآخر، وقد تستخدم استخدامات أخرى لم تؤخذ عليها الموافقة المسبقة.

ولكن، في المقابل دائمًا ترتفع الأيدي والأصوات اعتراضًا على تقنيات بعينها كتقنية التعرف على الوجوه وأنماط المشي؛ وسبب الاعتراض هنا ليس الشعور الزائد بالخصوصية تجاه الوجوه وأنماط المشي وحسب، بل أيضًا ما تحمله هذه التقنيات من درجات عالية وغير متناسبة من التطفل غير المريح. وبذا تكون التقنية في حد ذاتها مكان الجدل؛ لأن هذه الدرجة من التغول على الخصوصية هي الطريقة الوحيدة التي يمكن أن تعمل بها.

تعقيدات مقاربة حفظ الأمن، تطبيق القانون ومدى الاستعداد للتخلي عن بعض الخصوصية

يعتبر كثيرون قانون حقوق الإنسان المعيار الرئيس، الذي يُعتمد عليه لحسم الجدل حول تموضع نقطة التوازن بين واجب مؤسسات الدولة في حفظ الأمن، وحق الأفراد والمجموعات في التمتع بالحريات؛ فمعظم الناس يتفقون على واجب آلة الدولة الأمنية في حمايتهم، ولكنهم في الوقت نفسه يودون أن يكونوا أحرارًا بالقدر الذي يناسبهم ويناسب مُخيَّلهم لمعنى الحرية.

إعلان

وهذا يجب وضعه بجانب حقائق معقدة تفرضها طبيعة الحياة العصرية في يومنا هذا؛ فكل مراقب لهذه التعقيدات ومساراتها في الحياة المدنية، التي تشمل حركة الناس وسكونهم، بالإضافة إلى التفاصيل المعقدة للإجراءات القانونية المصاحبة لأداء الطواقم الأمنية لواجبها، يدرك أنه قد يعد ضربًا من المستحيل توفير قوة بشرية كافية على الأرض للقيام بهذه المهام.

وعليه، قد يكون من البديهي أن تنال أي مساعدة ذات طبيعة تقنية تقييمًا إيجابيًا؛ نتيجة لما توفره من وقت وقفز فوق بعض الحواجز القانونية، ما كان له أن يتوفر بدونها.

ولكن، في الوقت الذي قد يبدو فيه البعض غير آبه بالتخلي عن بعض أوجه الخصوصية في سبيل توفير الأمان له وللمجتمع، يعترض كثيرون على الطبيعة التعسفية لهذه التقنيات، فهي تجمع المعلومات بطريقة يستوي فيها المُتَّهم وغير المُتَّهم.

أضف إلى ذلك أن وجوه الناس متاحة بطبيعة الحال، وعليه بصورةٍ ما ليس لديهم خيارات بديلة. مثلًا، يتيح القانون في بلدان عديدة للأشخاص عدم إبراز هوياتهم أو بطاقاتهم الشخصية للطواقم الأمنية، إذا لم يكن هناك مسوغ قانوني مكتوب، أو جريمة يجري التحقيق فيها.

وما ينطبق على تقنيات التعرف على الوجوه، أو جمع معلومات الحمض النووي، قد ينسحب بصورة أقل درجة على تقنيات أخرى ككاميرات المراقبة.

تنشأ المخاوف أيضًا من قدرة هذه التقنيات على التعرف على أشخاص، ربما كان لهم ماضٍ مشبوه تخطّوه بتوبة ذاتية، أو نتيجة خضوعهم لبرامج وتدريبات مؤسسية هدفت إلى انتشالهم من تلك الحالة عمليًا وسيكولوجيًا.

وبالتالي، فإن التعرف عليهم في كل مرة كأشخاص مشبوهين نتيجة لذلك الماضي قد لا يكون عادلًا، وقد يدفع بعضهم للعودة إلى ذلك الماضي طالما أن التغيير الذي تبنّوه لم يغير من تعاطي المجتمع والسلطة معهم.

يخطئ البشر باستمرار، ونتيجة لذلك تطورت لديهم آليات للمساءلة والتدقيق والتحقيق والمحاسبة، بيد أنه من الصعب التكهن بإمكانية أن ينسحب ذلك على تقنيات الذكاء الاصطناعي مستقبلًا، أو التكهن بأنَّ هذه التقنيات ستمتلك الحاكمية والقوامة على مصائر البشر!

بين الحالتين الإنسانية واللوغريتمية.. من يحاسب الآخر؟

بما أن التكنولوجيا صارت أشبه بالهواء المُتنفَّس اليوم، وأنها ذات أوجه إيجابية كثيرة، ولها القدرة على تغيير الكثير من أوجه حياة البشر نحو الأفضل، يكون السؤال عن كيفية إدارتها بطريقة ذكية أكثر من محاولات تحجيمها وإنكار إمكاناتها الهائلة. ولكن دائمًا ما ينشأ تساؤل مشروع عن مدى دقة الأدوات التكنولوجية والتقنيات المستخدمة في المراقبة، لتكون أداة مساعدة على تطبيق القانون!

إعلان

الواقع ما زال يقول بعدم توفر الدقة الكاملة مع اختلاف الإثنيات وأحيانًا النوع، ومن هنا ينشأ الإحساس القَلِق بمدى جدوى الاعتماد على لوغريتمات تكنولوجية، قد لا تتمتع بالدقة الكافية التي تمكن القانون من الفصل بين البراءة وإثبات الجنوح.

وبما أن واقع استخدام تقنيات المراقبة اليوم يقول إنَّ مقدار الذكاء الصناعي المستخدم حاليًا -للأسف- يسير في كلا الاتجاهين، الجيد والسيئ، يكون السياق مفهومًا عندما يُحذِّر كثيرون من إعطاء آلة الدولة وعمالقة التكنولوجيا الحرية الكاملة في توجيه استخدامات التكنولوجيا، بل يعده البعض خلطة مثالية للتحكم وإساءة استخدام السلطة والقوة، وربما قد تؤدي في حد ذاتها إلى خرق القانون.

يخطئ البشر باستمرار، ونتيجة لذلك تطورت لديهم آليات للمساءلة والتدقيق والتحقيق والمحاسبة، بيد أنه من الصعب التكهن بإمكانية أن ينسحب ذلك على تقنيات الذكاء الاصطناعي مستقبلًا، أو التكهن بأنَّ هذه التقنيات ستمتلك الحاكمية والقوامة على مصائر البشر!

يمكن القول إنَّ التقنية والاستثمار فيها من الأشياء التي ينالها القدح بسبب إيصال البشرية إلى ما هي عليه اليوم، وهذا يحمل الأمل والتفاؤل بشأن قدرة العقل الجمعي البشري حاضرًا ومستقبلًا على وضع استخدامات التقنية فيما يفيد وينفع في نهاية الأمر.

لذا، فإن الأمر في نهايته يرجع إلى البشر، ومدى قدرتهم على استقراء الاستخدامات المفيدة لكل التقنيات ذات القدرة على المراقبة، والابتعاد عما يمثل تهديدًا لمبدأ العدالة والحرية، وللحياة وازدهارها بصورة عامة. وإذا افترضنا أن التكنولوجيا ستكون لها الكلمة الأخيرة، فإنه يقع على عاتق الإنسان جعلها تتمتع بالذكاء العاطفي المطلوب، حتى تتعاطى مع الأمور بنفس طريقة البشر ولكن تفوق فاعليتهم.

ختامًا، هناك إحساس فطري بالراحة يكون عند البشر عند العلم بأنَّ هنالك جانبًا من حياتهم لا يعرف الآخرون تفاصيله؛ وهذا هو عين ما يُعرِّف الخصوصية. الحقائق تقول إنَّ التقنيات المستخدمة للمراقبة لها ميزات هائلة في تجميع وتخزين المعلومات، ولكن في نفس الوقت، ليس من خصائص هذه التقنيات، ولا من أولويات من جعلوها واقعًا، مسائل مثل رعاية الخصوصية وجعلها ذات خصائص أقرب إلى فهم الجانب الإنساني والعاطفي للبشر.

إعلان

وبما أن الخيط رفيع عند نقطة التوازن التي تجمع مبدأي الخصوصية وحفظ الأمن، يظل التعويل على العقل الجمعي البشري لإيجاد مقاربة تجمع بين فاعلية التقنية والذكاء العاطفي الإنساني.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان