مع دخول اتفاق وقف إطلاق النار الذي طال انتظاره حيز التنفيذ في قطاع غزة، وبعد حرب الإبادة التي تعرض لها سكان القطاع، تتجه الأنظار نحو الظروف المأساوية التي لن يتم تجاوزها بسهولة، في ظلّ حاجة قطاع غزة إلى مليارات الدولارات لرفع الأنقاض وإعادة الإعمار، حيث يتّسم الوضع اليوم بالتعقيد.
ويبرز ملف الخسائر في المباني والممتلكات العامة والخاصة والبنية التحتية إلى الواجهة، حيث تقف غزة أمام تحديات عديدة ومعقدة، وسيجد سكان القطاع أمامهم في الأيام القادمة ظروفًا قاسية، خلفها العدوان الوحشي الذي استمر 471 يومًا.
بعد انتهاء العدوان "الإسرائيلي" على قطاع غزة، الذي خلّف دمارًا كبيرًا وأزمات إنسانية عميقة، باتت التحديات تثقل كاهل السكان الذين عانوا منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وتبرز أولويات ملحة في قطاع غزة المدمّر، تحتاج إلى معالجات سريعة لتحقيق استقرار نسبي، وبدء عملية إعادة الإعمار وإسكان آلاف العائلات التي دمر جيش الاحتلال منازلها، وإجراء صيانة عاجلة للبنية التحتية، وتوفير تمويل دولي عاجل لذلك.
لقد خلّف العدوان على قطاع غزة دمارًا هائلًا، حيث فقد أكثر من مليون إنسان منازلهم، وفقًا لبيانات البنك الدولي، وتعرض ما يقرب من 90% من المرافق الصحية للأضرار أو للتدمير، ودُمرت المدارس أو تحولت إلى ملاجئ للنازحين، وأظهر تقرير للأمم المتحدة، نشر في العام الماضي، أن إعادة بناء المنازل المدمرة في قطاع غزة قد تستمر حتى عام 2040 على الأقل، وقد يطول الأمر أكثر من ذلك.
ووفقًا لبيانات أقمار اصطناعية للأمم المتحدة نشرت في ديسمبر/ كانون الأول، فإن ثلثي المباني في غزة قبل حرب الإبادة (أكثر من 170 ألف مبنى) تهدمت أو سويت بالأرض؛ وهذا يعادل حوالي 69% من إجمالي المباني في قطاع غزة.
وذكرت تقديرات للأمم المتحدة أن هذا الإحصاء يتضمن ما مجموعه 245.123 وحدة سكنية. وقال مكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية إن أكثر من 1.8 مليون شخص يحتاجون حاليًا إلى مأوى في غزة.
أظهرت صور أقمار صناعية حللها خبراء أمميون أن أكثر من نصف الأراضي الزراعية في غزة، والتي تعد حيوية لإطعام السكان الجوعى في القطاع الذي مزقته الحرب، تدهورت بسبب الصراع
البنية التحتية
وذكر تقرير للأمم المتحدة والبنك الدولي أن الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية تقدر بنحو 18.5 مليار دولار حتى نهاية يناير/ كانون الثاني 2024؛ وأثرت على المباني السكنية والمحلات التجارية، والمصانع والمدارس والمستشفيات، ومحطات الطاقة.
وأظهر تحديث صادر عن مكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية هذا الشهر أن المتاح الآن من إمدادات المياه أقل من ربع الإمدادات قبل الحرب؛ في حين تعرض ما لا يقل عن 68% من شبكة الطرق لأضرار بالغة.
تدمير الأراضي الزراعية
أظهرت صور أقمار صناعية حللها خبراء أمميون أن أكثر من نصف الأراضي الزراعية في غزة، والتي تعد حيوية لإطعام السكان الجوعى في القطاع الذي مزقته الحرب، تدهورت بسبب الصراع. وتكشف البيانات زيادة في تدمير البساتين والحقول والخضراوات في القطاع الفلسطيني، حيث ينتشر الجوع على نطاق واسع بعد 15 شهرًا من القصف الإسرائيلي.
وقالت منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة العام الماضي؛ إن 15 ألف رأس من الماشية، أو أكثر من 95% من إجمالي الماشية، ونحو نصف الأغنام، ذبحت أو نفقت منذ بدء الصراع.
تدمير المدارس والجامعات ودور العبادة
دُمرت أو تضررت مئات المدارس والجامعات والمعاهد والمراكز التعليمية ودور العبادة، وتُظهِر البيانات الفلسطينية أن الصراع أدى إلى تدمير أكثر من 200 منشأة حكومية، و136 مدرسة وجامعة، و823 مسجدًا، وثلاث كنائس.
وأظهر تقرير مكتب الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة أن العديد من المستشفيات تهدمت أو تضررت أثناء الصراع، حيث لم يعد يعمل منها في يناير/ كانون الثاني سوى 17 فقط من أصل 36، وبصورة جزئية.
وتضرر أكثر من 70% من المدارس، التي تدير الأونروا الجزء الأكبر منها، حيث لجأ العديد من المدنيين إليها هربًا من القتال. وأحصت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) 408 مدارس لحقت بها الأضرار، أي ما يعادل 72.5% على الأقل من هذه المنشآت التعليمية، التي تفيد بياناتها بأن عددها 563. ومن بين هذه المنشآت، دُمّرت مباني 53 مدرسة بالكامل، وتضرر 274 مبنى آخر جراء النيران المباشرة.
وفيما يتعلق بأماكن العبادة، تظهر بيانات UNOSAT وOpenStreetMap معًا أن 61.5% من المساجد تضرّرت أو دُمّرت.
وسلط تقرير لمنظمة العفو الدولية الضوء على مدى الدمار على طول الحدود الشرقية لقطاع غزة. فحتى مايو/ أيار 2024، كان أكثر من 90% من المباني في هذه المنطقة، بما في ذلك أكثر من 3.500 مبنى، إما مدمرة أو تعرضت لأضرار شديدة.
تدمير 80% من مدينة غزة
وتعد غزة من المناطق ذات الكثافة السكانية الكبرى في العالم؛ حيث كان 2.3 مليون شخص يعيشون في القطاع البالغة مساحته 365 كيلومترًا مربعًا قبل الحرب.
ووفق تحليلات عبر أقمار صناعية، أجراها متخصصون بالجغرافيا في جامعة ولاية أوريغون، فإن 56.9% من مباني غزة تضررت أو دُمّرت حتى 21 أبريل/ نيسان 2024، لتصل إلى ما مجموعه 160 ألف مبنى.
وفي مدينة غزة التي كانت تعد 600 ألف نسمة قبل الحرب، فإن الوضع غاية في الخطورة إذ تضررت أو دُمرّت ثلاثة أرباع مبانيها تقريبًا (80% منها).
تدمير المستشفيات
هاجم جيش الاحتلال عدة مستشفيات في غزة بشكل متكرر خلال الحرب، وقال إن حماس تستخدمها لأغراض عسكرية، وهي تهمة تنفيها الحركة. وخلال الأسابيع الستة الأولى من الحرب أشير إلى 60% من المنشآت الصحية على أنها متضررة أو مدمرة، بحسب تحليلات جامعة أوريغون.
واستُهدف أكبر مستشفى في القطاع (مجمّع الشفاء الطبي) في مدينة غزة بهجومين شنّهما جيش الاحتلال؛ كان الأول في نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، والثاني في مارس/ آذار 2024. وأفادت منظمة الصحة العالمية بأن العملية الثانية حولت المستشفى إلى "هيكل فارغ"، تناثرت فيه الأشلاء البشرية.
ودُمّرت خمسة مستشفيات بالكامل، وفق أرقام جمعتها فرانس برس من مشروع "أوبن ستريت ماب" (OpenStreetMap)، ووزارة الصحة التابعة للحكومة، ومركز الأقمار الصناعية التابع للأمم المتحدة (UNOSAT)، في مايو/ أيار الماضي، وما زال أقل من مستشفى من بين ثلاثة (أي 28%) يعمل بشكل جزئي، بحسب الأمم المتحدة.
ثلثا الوظائف التي كانت متاحة في غزة قبل الحرب لم تعد موجودة. وحتى قبل العدوان كان الفقر منتشرًا على نطاق واسع، لكنه اليوم يطول جميع سكان غزة تقريبًا
إزالة الأنقاض وإعادة الإعمار
وأشارت الأمم المتحدة في أكتوبر/ تشرين الأول إلى أن إزالة 42 مليون طن من الركام، الذي خلفه قصف جيش الاحتلال، قد تستغرق سنوات وتكلف 1.2 مليار دولار. وأشار تقدير للأمم المتحدة في أبريل/ نيسان 2024 إلى أن الأمر سيستغرق 14 عامًا لإزالة الأنقاض.
ويذكر أن الحطام قد يحتوي على أشلاء بشرية، وقدرت وزارة الصحة التابعة لحماس في مايو/ أيار الماضي أن هناك نحو 10 آلاف جثة تحت الركام.
وتفيد تقديرات الأمم المتحدة إلى أن ثلثي المدارس سيحتاج إلى عمليات إعادة إعمار كاملة أو رئيسية لتعود إلى الخدمة.
وقدّرت الأمم المتحدة بأنه حتى مطلع مايو/ أيار 2024، ستكلف إعادة الإعمار ما بين 30 و40 مليار دولار.
أزمة اقتصادية
دمرت حرب الإبادة اقتصاد غزة، وقلصته إلى أقل من سدس مستواه في عام 2022.
وذكر تقرير لمؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية، نشر في سبتمبر/ أيلول الماضي، أن عمليات الإنتاج في غزة توقفت أو دمرت وفقدت مصادر الدخل، وتفاقم الفقر وانتشر، وسُويت أحياء بكاملها بالأرض، ودمرت مجتمعات ومدن. وتسببت العمليات العسكرية للاحتلال "بأزمات إنسانية وبيئية واجتماعية غير مسبوقة"، وفقًا للمصدر ذاته.
وخلال مؤتمر صحفي في سبتمبر/ أيلول الماضي، قال مسؤول التنسيق والمساعدة للشعب الفلسطيني في مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية، معتصم الأقرع، الذي شارك في إعداد التقرير: "لن نعلم حجم عمليات التدمير قبل أن تتوقف، لكن المعطيات التي لدينا راهنًا تفيد بأنها تقدر بعشرات المليارات وربما أكثر".
وأضاف القول إن "الوصول إلى مستوى ما قبل أكتوبر/ تشرين الأول 2023 يتطلب عشرات الأعوام"، معتبرًا أن على المجتمع الدولي المساعدة في تحقيق "تنمية مستدامة" في غزة.
خسائر اقتصادية كارثية
وبالإضافة إلى الخسائر البشرية الفادحة، فإن الخسائر الاقتصادية كارثية، ورأى معدو التقرير أن إجمالي الناتج المحلي في غزة انخفض بنسبة 81% في الربع الأخير من عام 2023، ما أدى إلى انكماش بنسبة 22% للعام بأكمله.
ويؤكد التقرير الذي استند في حساباته إلى أرقام فصلية صادرة عن المكتب المركزي للإحصاء الفلسطيني أنه "في منتصف عام 2024، تراجع اقتصاد غزة إلى أقل من سدس مستواه في عام 2022.
إن قضية إعمار قطاع غزة ليست مجرد قضية مادية، بل هي حق وقضية إنسانية ملحّة، تمس كرامة الإنسان وحقه في العيش في بيئة آمنة وكريمة، لذلك يجب العمل بسرعة لإعادة الإعمار
ومطلع عام 2024، تم إتلاف ما بين 80% و96% من شبكات الري ومزارع المواشي والبساتين والآلات ومرافق التخزين، حسبما يؤكد التقرير، ما فاقم "مستويات انعدام الأمن الغذائي المرتفعة أصلًا". وأضاف التقرير أن الدمار أصاب أيضًا القطاع الخاص بشدة، حيث تعرضت 82% من الشركات التي تعتبر المحرك الرئيسي لاقتصاد غزة، للضرر أو الدمار.
وفي غزة، ثلثا الوظائف التي كانت متاحة قبل الحرب لم تعد موجودة. وحتى قبل العدوان كان الفقر منتشرًا على نطاق واسع، لكنه اليوم يطول جميع سكان غزة تقريبًا.
تحرك إنساني ودولي
ختامًا: إن قضية إعمار قطاع غزة ليست مجرد قضية مادية، بل هي حق وقضية إنسانية ملحّة، تمس كرامة الإنسان وحقه في العيش في بيئة آمنة وكريمة، لذلك يجب العمل بسرعة لإعادة الإعمار في غزة، واعتبار ذلك أولوية قصوى لإعادة الأمل والاستقرار إلى القطاع، وضرورة الدعوة لعقد مؤتمر دولي عاجل، يهدف إلى تسريع وتيرة إعادة الإعمار وتوفير التمويل اللازم لتعويض المتضررين.
وعلى المجتمع الدولي أن يتعاون ويتحمّل مسؤولياته تجاه غزة، التي تعاني حصارًا خانقًا يزيد من تعقيد الأزمة، ويجب أيضًا وضع خطط عملية وشفافة لتنفيذ الإعمار بشكل سريع وشامل، ليتمكن السكان من تجاوز آثار الحرب المدمرة واستعادة حياتهم الطبيعية.
وهناك تجارب إنسانية عديدة شهدها العالم عقب الحروب في أزمنة مختلفة، مثل الحربين العالميتين؛ الأولى والثانية، وهيروشيما، والبوسنة والهرسك، لكن ما حدث في غزة غير مسبوق وانتهك كل الحقوق الإنسانية.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.