شعار قسم مدونات

كازاخستان.. شريك عالمي بسباق "المعادن النادرة"

تصميم خاص خريطة كازاخستان
تشهد كازاخستان نهضة تمضي بثبات وهدوء منقطعي النظير، في مجالي المواصلات والنفط، وخصوصًا التعدين (الجزيرة)

سنحت لي الفرصة خلال الصيف الماضي زيارة كازاخستان، التي أمضيت فيها قرابة أسبوع كامل، وتنقلت بين مقاطعات ذاك البلد الآسيوي الغني والمترامي الأطراف. أكثر ما لفت انتباهي في حينها، النهضة التي تشهدها البلاد بثبات وهدوء منقطعي النظير، في مجالي المواصلات والنفط، وخصوصًا مجال التعدين الذي يشهد طفرة في كل أنحاء العالم.

موقع كازاخستان وغناها بالثروات الطبيعية، جعلا منها ملاذًا مستقبليًا للاستثمارات، بسبب موقعها الجغرافي المهم، وغناها بالمعادن الأرضية النادرة، التي تزداد أهميتها في ظل التقدم التكنولوجي السريع، والاعتماد المتزايد عليها في صناعة الأجهزة الإلكترونية والطاقة المتجددة.

تلك المعادن أمست اليوم، ذات دورٍ محوريّ في تطوير القطاعات الهندسية والدفاعية والفضائية والطبية وغيرها من القطاعات الصناعية، وواحدة من أكثر مكونات الاقتصاد العالمي قيمة.

أصبحت المعادن الأرضية النادرة بمثابة "النفط الجديد". فالبلدان القادرة على تحقيق إمكاناتها في هذا المجال ستحدّد اتجاه التقدم التكنولوجي في جميع أنحاء العالم

ولمن لا يعرف هذه المعادن، فهي قرابة 17 عنصرًا كيميائيًا، تتميز بخصائص فريدة، وتشمل كلًا من: السيريوم، الديسبروسيوم، الإيربيوم، الأوروبيوم، الجادولينيوم، الهولميوم، اللانثانم، اللوتيتيوم، النيوديميوم، البراسيوديميوم، البروميثيوم، الساماريوم، السكانديوم، التيربيوم، الثوليوم، والإيتربيوم… والتي تُستخدم كلها في الصناعات التكنولوجية، مثل: الإلكترونيات، والهواتف الذكية، وشاشات العرض، والمغناطيسات القوية، والبطاريات. ناهيك عن أهميتها في صناعة الطاقة المتجددة، كتوربينات الرياح والألواح الشمسية، والسيارات الكهربائية والمحركات.

إعلان

استخراج هذه المعادن يواجه تحديات عدّة حول العالم. أهمها الاحتكار الجغرافي، حيث تُعدّ الصين صاحبة السيطرة على هذا القطاع، باعتبارها المنتج الأكبر في العالم. بيدَ أنّ الجديد في الأمر هو دخول كازاخستان على خط المنافسة، التي ستجعل هذا القطاع أكثر مرونة في المستقبل.

فوفقًا لتوقعات الشركة الاستشارية Research Nester فإنّ معدل النمو السنوي لسوق المعادن النادرة سيكون بين الأعوام 2023 و2035، قرابة 8%. وكذلك وفقًا لـ"وكالة الطاقة الدولية"، سيزداد نمو استخراج تلك المعادن كثيرًا بحلول عام 2040، إذ سيرتفع الطلب العالمي عليها أضعافًا بحلول العام 2040.

لكن مع ذلك، فإنّ ثمة خطرًا كبيرًا يهدّد نقص الإمدادات الخاصة بها في العقود المقبلة، وذلك نظرًا لارتفاع الطلب العالمي عليها وانخفاض كمية الاحتياطيات المؤكدة.

أصبحت المعادن الأرضية النادرة بمثابة "النفط الجديد". فالبلدان القادرة على تحقيق إمكاناتها في هذا المجال ستحدّد اتجاه التقدم التكنولوجي في جميع أنحاء العالم، ومن بين تلك الدول كازاخستان، التي تُعدّ واحدة من الدول التي لديها احتياطيات كبيرة من المعادن الأرضية النادرة.

بحسب تقديرات البنك الدولي، يوجد في تلك الجمهورية الآسيوية، نحو 5 آلاف من رواسب معدنية نادرة غير مكتشفة، وتبلغ قيمتها الإجمالية ما يفوق 46 تريليون دولار أميركي.

في السنوات الأخيرة، وعلى خلفية الطلب المتزايد على قطاعات الاقتصاد ذات التقنية العالية، لم تستطع المعادن المصنّعة في المعامل سدّ النقص الحاصل في هذا المجال، نتيجة الصراعات التجارية بين البلدان.. وهو ما زاد الاهتمام الدولي بصناعة المعادن الأرضية النادرة في كازاخستان بشكل ملحوظ.

اليوم، تتعهد كازاخستان بضمان الإمداد العالمي المستمرّ بتلك المعادن الحيوية، وتؤكد استثماراتها النشطة في هذا المجال، أنّ بناها التحتية جاهزة لسدّ الطلب العالمي المتزايد، الذي يتزايد بسبب تحوّل مصادر الطاقة نحو تلك المستدامة مع تطوّر صناعة السيارات الكهربائية كذلك.

إعلان

فمنذ عام 2020، زادت صادرات كازاخستان من المعادن الأرضية النادرة 4 مرات بالقيمة الدولارية، وهو ما مكّن الشركات الكازاخستانية من أن تحتلّ مكانة رائدة بين المنتجين العالميين لمواد: التيتانيوم، والبريليوم، والتنتالوم.

يُعد تصدير المعادن الأرضية النادرة عنصرًا مهمًا في تنويع اقتصاد البلاد. ولهذا، تجعل كازاخستان من تطوير رواسب المعادن الأرضية النادرة إحدى أولوياتها في الخطة التي وضعها الرئيس الكازاخي قاسم جومارت توكاييف مطلع العام الماضي.

ما يعزّز من قدرة كازاخستان على النجاح بهذا الأمر، هو قدرتها على توفير ظروف تنظيمية ومالية مرنة، تستطيع جذب الاستثمارات الأجنبية والتكنولوجيا، من أجل التطوير الفعال لمنشآتها. وبفضل "رقمنة" إدارات الدولة، تمت إزالة الحواجز البيروقراطية، وتمّ تقليص المواعيد النهائية مع تبسيط إجراءات الموافقة على المشاريع في مجال الاستكشاف الجيولوجي.

تخطط كازاخستان، اليوم، لتنفيذ مشاريع استثمارية من أجل إعادة المعدات الفنية للمؤسسات الصناعية، وتشغيل مرافق إنتاج جديدة، وإنشاء أنواع جديدة من المنتجات من المعادن الأرضية النادرة

تلك التدابير، تهدف إلى تحقيق أحد الأهداف الإستراتيجية بحلول العام 2026، وذلك من أجل زيادة مساحة الاستكشاف الجيولوجي والجيوفيزيائي من 1.5 مليون إلى ما لا يقل عن 2.2 مليون كيلومتر مربع.

من أجل مواصلة تطوير صناعة المعادن الأرضية النادرة، تم اعتماد خطّة شاملة في كازاخستان العام الماضي لتطوير تلك الصناعة للفترة الممتدة بين 2024 و2028.

وتمثل تلك الخطة نهجًا منظمًا لتطوير قاعدة الموارد المعدنية، وإنتاج المعادن الأرضية النادرة المترافق مع التنظيم المرن. وتشمل تلك الإجراءات على وجه الخصوص: التنقيب لتحديد المعادن الأرضية النادرة، وتطوير المعايير الوطنية والصناعية.

تهتم أستانا ببناء تعاون "طويل الأمد" و"متبادل المنفعة"، يقوم على إنشاء مشاريع مشتركة لمعالجة المعادن الأرضية النادرة والمشاركة في المشاريع الدولية الكبيرة

تخطط كازاخستان، اليوم، لتنفيذ مشاريع استثمارية من أجل إعادة المعدات الفنية للمؤسسات الصناعية، وتشغيل مرافق إنتاج جديدة، وإنشاء أنواع جديدة من المنتجات من المعادن الأرضية النادرة. وبالإضافة إلى ذلك، تعمل كازاخستان على تحسين بنيتها التحتية وتحديث شبكة النقل، وتحسين الخدمات اللوجيستية لنقل تلك المعادن عبر الدول.

إعلان

وفي سياق المنافسة المتزايدة على تلك المعادن، بدأت العديد من البلدان – وفي المقام الأول الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي – في البحث عن مصادر بديلة عن الصين، لتوريد المعادن الأرضية النادرة.

وبما أنّ كازاخستان تتمتع بأغنى الاحتياطيات من تلك المعادن، وشريك موثوق ومستقر لدى الدول الغربية، فقد أضحت الخيار الأكثر وضوحًا في الغرب. خصوصًا بعد إثبات قدرتها على تقليل اعتماد الشمال العالمي على الصادرات الصينية من المعادن الأرضية النادرة، وإزاحة هيمنة بكين في هذه السوق بشكل عام.

أقامت كازاخستان بالفعل علاقات تجارية بشأن قضايا التعدين ومعالجة وتجارة المعادن الأرضية النادرة مع الاتحاد الأوروبي، وبريطانيا، والولايات المتحدة الأميركية، وكوريا الجنوبية. كما بدأ الاتحاد الأوروبي مع أستانا، بتنفيذ مشاريع عدّة لتزويده بتلك المعادن.

على سبيل المثال، في العام الماضي وقع الطرفان مذكرتي تعاون بشأن المواد الخام بالغة الأهمية في بروكسل، وذلك خلال "أسبوع المواد الخام السنوي". بالإضافة إلى تنظيم كازاخستان منتدى التعاون مع الاتحاد الأوروبي في تطوير المعادن النادرة. هذا الحدث حضره ممثلون عن الوكالات الحكومية ومجتمعات الأعمال من بلجيكا، وألمانيا، ورومانيا، وفنلندا، وفرنسا، والسويد، وغيرها.

كما ناقش المنتدى آفاق توسيع التعاون التجاري والاقتصادي في مجال المواد الخام الحيوية، وإمكانية إقامة مشاريع مشتركة لاستخراج ومعالجة واستخدام الأتربة النادرة والمعادن النادرة.

في حينه، أكدت الدول الأوروبية لكازاخستان، أنّ الاتحاد يسعى إلى تنويع مصادر التوريد وتطوير الإنتاج في كازاخستان وفق صيغة "المواد الخام الكازاخستانية + الاستثمارات الأوروبية".

الاتجاه الآخر المحتمل للتعاون هو مع الهند، إذ تسعى الدولة الأكثر اكتظاظًا بالسكان في العالم، إلى تقصير طريق حصولها على المعادن من خلال استبدال الأرجنتين بكازاخستان باعتبارها "شريكًا قريبًا" من حدودها.

إعلان

أمّا أستانا فلا تهتم إلا ببناء تعاون "طويل الأمد" و"متبادل المنفعة"، يقوم على إنشاء مشاريع مشتركة لمعالجة المعادن الأرضية النادرة والمشاركة في المشاريع الدولية الكبيرة.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان