شعار قسم مدونات

الأقليات والتمييز المؤسسي في المَهجر.. صراع متجدد!

معظم مناهج التعليم في الدول المُستعمِرة تخلو من تفاصيل ذات معنى عن تأريخها الاستعماري (رويترز)

يتفاوت الإحساس بوجود وثِقَل آلة الدولة في المظهر العام في الكثير من بلدان العالم؛ وهو ثقل تتفاوت مكونات المجتمع في التعبير عن ارتياحها أو عدم ارتياحها له.. قد يراه البعض علامة على حفظ الأمن والنظام، بينما يَنظر إليه البعض الآخر – خاصة الأقليات- بعين الريبة والتوجس والشعور بالتهديد.

هذا الشعور يتفاوت الإحساس به، ابتداءً من التعرض للسلوك العدواني الخفي (microaggression)، وانتهاءً بمدى قدرة مؤسسات الدولة على إنتاج العنف ضد الأفراد والمجموعات.

هذا في حد ذاته شكل عنصرًا يختلف حوله الناس في معيار شعورهم بالمساواة أو عدمها، في جوّ تجد فيه الأقليات نفسها في مجتمعات غربية كثيرة في أسفل السُلم، في قطاعات حيوية متعددة كالتعليم والبحث العلمي والقضاء، ما يفتح الباب للتساؤل عن مدى هندسة مؤسسات السلطة والمجتمع شعوريًا أو لا شعوريًا لمصلحة قطاعات معينة.

هناك اعتقاد خاطئ بأن التمييز والعنصرية مشاكل تخص الأقليات وحدها، وهذا بدوره يؤدي إلى الاعتقاد بأن الحل يقع على عاتق الأقليات في المقام الأول

التأريخ الاستعماري وإرثه المتجدد

يُعتبر التأريخ الاستعماري، وتجربة بعض المجتمعات مع الاسترقاق في القرن الماضي، بمثابة إرث قطعة الدومينو التي لا تفسر وجود الأقليات في المجتمعات الغربية وحسب، بل تفسر الكثير من تطلعاتهم وآلامهم في الوقت نفسه.

على الرغم من أهمية هذا الإرث، تشكو الأقليات من تهميشه ومحاولات اعتباره تأريخًا يخص الأقليات وحدها. وهذه نظرة غير واقعية؛ لأنه تأريخ يشترك فيه الكل، ولكن بأدوار مختلفة، وأنه تأريخ يشرح للكل لماذا هم على ما هم عليه الآن من ناحية اقتصادية وديمغرافية وتقدم تعليمي وخلافه.

إعلان

ينشأ اللغط دائمًا من محاولات الهروب من ذلك التأريخ، واعتباره نقطة سوداء تجاوزها العقل الجمعي، في حين أن هذه النقطة ذاتها لا يمكن تجاوزها إذا أردنا تقديم شرح وتشخيص للحالة الراهنة للمجتمع، في جوانبها الإيجابية والسلبية على حد سواء.

هناك أيضًا اعتقاد خاطئ بأن التمييز والعنصرية مشاكل تخص الأقليات وحدها، وهذا بدوره يؤدي إلى الاعتقاد بأن الحل يقع على عاتق الأقليات في المقام الأول. أضف إلى ذلك، تميل بعض النخب عمدًا أو بطريقة غير مقصودة إلى الرجوع إلى تقارير من أمثلة تقول إن الأقليات تأخذ مكانها بطريقة جيدة في السلم التعليمي هنا أو هناك، أو تقول إن معظم مقدمي الرعاية الصحية من الأقليات.

وتحتج هذه النخب أيضًا بأنه مقارنة مع السابق، تستطيع مكونات المجتمع من الأقليات دون حرج الدخول في حوار مفتوح مع مؤسسات الحكم ومكونات المجتمع الأخرى حول قضاياها المصيرية.

بيدَ أن هذه التقارير على صحتها تعطي بُعدًا تسطيحيًا للمشكلة أكثر منه إفادة عميقة تدفع في اتجاه تعزيز أوضاع الأقليات؛ وقد يعدها البعض تبريرات كريمة لصالح المكونات العنصرية في المجتمع، ومكونات الدولة العصِيَّة على التغيير، فيما يتعلق بتبني الأجندة التقدمية لصالح الأقليات.

فهذه التقارير لا تعبر عن البعد الحقيقي للمشكل عند الحديث عن العنصرية المؤسسية، كما أنه من الصعب الأخذ بها كليةً؛ وذلك لأن كل الإحصائيات الأخرى تنضح بعدم التناسبية عند الأقليات فيما يتعلق بالفقر والمعاناة، وأداء وظائف لا يرغبون في أدائها، بالرغم من أنهم ربما يمثلون الجيل الثالث من أبناء المهاجرين، ما يعزز الانطباع بِتَجذُّر العنصرية المؤسسية تجاههم.

قد يحتج البعض بأن المناهج تحوي قوائم وأُطُرًا كميةً كافية فيما يخص تأريخ الأقليات، وأنه من الضروري للسُّلَّم التعليمي التركيز على استشراف المستقبل وتعزيز الشعور بالمَعِيَّة والهم والمصير المشترك

المناهج التعليمية في عين العاصفة

لتحديد مدى شمولية مناهج التعليم واحتوائها على تأريخ الأقليات، لا بد من أخذ ما هو متوفر من هذا التأريخ في المناهج الآن، ومقارنته بالكم الهائل من المخزون المعرفي للمجتمع ومؤسساته الأكاديمية. هناك ما يشبه فقدان الذاكرة فيما يتعلق بالتعاطي الرسمي مع تأريخ المكونات التي تمثل الأقلية، وفلترة متعمدة تحجب نضالاتها وآهاتها التأريخية عن الأجيال.

إعلان

تشكو الأقليات من تهميش تأريخها في المؤسسات التعليمية، وأحيانًا قد يحتاج الدارسون لما يأخذهم إلى الدراسات العليا حتى تجد شيئًا عن تأريخ الأقليات ومساهماتها في صنع الواقع، ومعاناتها وصراعها الطويل لنيل الحقوق.

وتكاد معظم مناهج التعليم في الدول المُستعمِرة تخلو من تفاصيل ذات معنى عن تأريخها الاستعماري، وهناك صمت متعمد عن ذكر المعاناة الرهيبة، التي مرت بها الشعوب من خلال الاسترقاق والتهجير القسري، وحتى الهجرة التي حدثت بصورة اختيارية لم تخلُ من مسيرةٍ وَعِرَةٍ للتأقلم ونيل الحقوق.

قد يحتج البعض بأن المناهج تحوي قوائم وأُطُرًا كميةً كافية فيما يخص تأريخ الأقليات، وأنه من الضروري للسُّلَّم التعليمي التركيز على استشراف المستقبل وتعزيز الشعور بالمَعِيَّة والهم والمصير المشترك.

ولكن يقابل هذا الطرح أن تجاهل الماضي يمثل عين المشكلة، وأن وجود أُطر وقوائم تعليمية كَمّية في طبيعتها لا يعبر بالضرورة عن نوعية وجودة المادة التعليمية المُقدمة، كما أنه لا يعبر عن جودة تنزيلها كمنتج نهائي للطالب في المساحات التعليمية المتاحة، ولا يعبر عن مدى شعور الطلاب من الأقليات بأن المادة التعليمية تخاطب وتنفذ إلى صُلب علامات الاستفهام بخواطرهم.

فالواقع لا يقول بوجود قدر معقول من المقررات يعكس المساهمة الإيجابية للأقليات في التأريخ القريب، ما يتطلب تدخلًا على المستوى السياسي لمعالجة ذاكرة مفقودة في العقل الجمعي للمجتمعات ذات الخلفيات الاستعمارية، وتلك التي دعمت تجارة الرقيق في الماضي.

يُجْمِع كثيرون أيضًا على أنه من الضروري، بجانب التركيز على إصلاح المناهج التعليمية، تعزيز الحوار الجاد عن كيفية تفكيك العنصرية المؤسسية. ولعل نقطة البداية في ذلك يجب أن تكون في اتجاه تحديد العنصرية والتمييز كمشكلة يقع حلُّها على عاتق الجميع

مكامن الانطلاق نحو الحلول

ربما تكمن الحلول ابتداءً بجلوس كل الأطراف المعنية، وتحديد المسؤوليات التأريخية ودور المؤسسات والأفراد على حدٍّ سواء. ولا شك أن الاكتفاء بالقول إن هناك مظالم تأريخية يعلمها الجميع، وإنه يجب على الكل النظر إلى الأمام، يمثل تمييعًا مُخلًّا للمشكلة؛ لأن العلم بوجود المشكلة لا يعني بالضرورة فهمها أو تقبل التبعات التأريخية والمستقبلية لها، وأهم من ذلك الاستعداد النفسي للمشاركة في حلها.

إعلان

هذا الحل لا غنى له عن أدوات مثل التعليم، وإتاحة الفرص الكافية للحوار، وتعزيز دور المؤسسات ذات البنية والهياكل المرنة للتنفيذ والمراقبة والمعالجة الخلاقة لكل المشاكل التي تنشأ عن التمييز، أو التي تؤدي إلى تفاقم المشاكل الناتجة عنه، وبالتالي اتساع الهوة بين ضحاياه والمستفيدين منه.

يُجْمِع كثيرون أيضًا على أنه من الضروري، بجانب التركيز على إصلاح المناهج التعليمية، تعزيز الحوار الجاد عن كيفية تفكيك العنصرية المؤسسية. ولعل نقطة البداية في ذلك يجب أن تكون في اتجاه تحديد العنصرية والتمييز كمشكلة يقع حلُّها على عاتق الجميع، والتوقف عن اعتبارها مشكلة تخص الأقليات؛ فوجود هؤلاء من الأقليات في هذه الأوضاع قديمًا وحديثًا لم يكن باختيارهم، بل هو وضع وجدوا أنفسهم ضحايا له، اعتمادًا على فكرٍ ملتوٍ يتوهم تفوق أعراق معينة على أُخرى.

بناءً عليه، فإن الوضع السليم للخروج من هذا المشكل يبدأ باعتباره عبئًا يتوجب على الجميع المشاركة في حله؛ من وجدوا أنفسهم في وضع التميُّز بسبب هذه الإسقاطات التأريخية عليهم الاعتراف بذلك ابتداءً، ومن ثم التفكير في كيفية استغلال هذا الوضع المتميز في المشاركة والحوار مع من وجدوا أنفسهم في وضع الضحايا، لإيجاد حلول تجد الارتياح الوجداني والرضا من الجميع.

ختامًا، ربما يكون السؤال الحقيقي ليس عن وجود التمييز والعنصرية في مجتمعٍ ما، ولكن عن مقدارهما؛ فمعظم المجتمعات لا تخلو من هذه السَّوْءات، والكثير منها ممن كان يُعتقد بمثاليتها تُثبِت بين الفينة والأخرى مقدرة مكونات منها على إنتاج السلوك العنصري. ولذلك يكون من المفيد البحث عن سبل محاربة ذلك السلوك، وتعزيز الوسائل التي تؤدي إلى تقوية ضحاياه.

من الضروري أيضًا عدم الاتكاء على حقيقة أن منظومات الدولة والمجتمع قد حققت تقدمًا فيما يتعلق بمحاربة العنصرية والتمييز؛ لأن ذلك يعطي انطباعًا خاطئًا بأن المهمة قد أُنجزت في حين أن الواقع يقول إنه ما يزال هنالك الكثير من العمل الذي يتوجب إنجازه. وأكثر من ذلك، فإن الركون إلى هذه الحالة النفسية ربما يعطي انطباعًا بالتواطؤ مع من يعطلون الحلول.

إعلان

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان