- قراءة في ضوء رؤيتَي إدوارد سعيد وميشيل أونفري
تضع الحرب أوزارها في قطاع غزة، وينتهي المشهد بطاولة مفاوضات يقف طرفاها أحدهما على نقيض الآخر، يتجاذبان رؤى متقاطبة، وينطلقان من خلفيات فكرية وعقدية وثقافية مختلفة يحضرُ فيها -مرة أخرى – الصراع الفلسفي الأزلي بين الشرق والغرب، ليفرض نفسه بقوة على الوعي البشري الكوني.
إن الصراعات التي تشهدها الساحة الدولية اليوم نتيجة لما أعقب الحرب على غزة، وإن بدت في ظاهرها سياسية أو عسكرية، تحمل في أعماقها أبعادًا أعمق من مجرد الخلافات المادية أو الأيديولوجية المباشرة، وتكشف عن الصراع الحضاري بين الشرق والغرب كأساس راسخ لهذه المواجهة، وهو ما يمكّننا -في أفق السعي إلى قراءة هذا المشهد الفلسفي – من الاستناد إلى منظور إدوارد سعيد، الذي فكك في مشروعه الفكري مفهومَ "الاستشراق"، مُبينًا كيف تم بناء صورة الشرق في الوعي الغربي، بوصفه الآخر النقيض، ثم إلحاقها برؤى بول فاليري عن الحضارة الغربية وصراعاتها الداخلية والخارجية.
هذه الحرب ومخرجاتُ مفاوضاتها، ليست مجرد مواجهة عسكرية أنتجت واقعًا على الأرض، بل هي صراع بين نظامَين قِيَميَين يسعى كل منهما إلى فرض منطقه على الآخر
إدوارد سعيد والاستشراق: الصراع بوصفه إنتاجًا للآخر
في كتابه "الاستشراق"، يكشف إدوارد سعيد أن العلاقة بين الشرق والغرب لم تكن يومًا علاقة بريئة، بل هي علاقة تشكلت عبر تراتبية استعمارية، يتم فيها تسويق الآخر (الشرق) كموضوع للدراسة والهيمنة، إذ إن الشرق في التمثّل الغربي ليس كيانًا قائمًا بذاته، بل هو مصطلح/ مطيّة يُستخدم لتثبيت تفوق الغرب الحضاري والعلمي.
كما يرى سعيد أن الصراع لا يقتصر على الأسلحة أو الجغرافيا، بل يتعداها ليشمل الرموز والقيم والثقافة، حيث يعمد الغرب إلى تهميش ممنهج للشرق بوصفه ذلك الكيان العاجز عن تمثّل قيم الحداثة كما يتصورها هو، بينما يحتكر الغرب لنفسه صفات التقدم والإنسانية.
إن النظر إلى حرب غزة في هذا الإطار يعيد التذكير بالصراع العميق بين مشروعَين حضاريين كبيرين؛ أحدهما يستند إلى الدين والهوية الجماعية، والمقدّرات القيمية والحضارية، والآخر يستند إلى الحداثة العلمانية والفردانية؛ هذه الحرب إذن ومخرجاتُ مفاوضاتها، ليست مجرد مواجهة عسكرية أنتجت واقعًا على الأرض، بل هي صراع بين نظامين قِيَميين يسعى كل منهما إلى فرض منطقه على الآخر.
ميشيل أونفري وانهيار الحضارة الغربية
تماهيًا مع ذلك يُقدم ميشيل أونفري في كتاباته رؤى عميقة ناقدة للحضارة الغربية، مشيرًا إلى هشاشتها رغم قوتها الظاهرة؛ ويبرز أونفري أن الحضارة الغربية -شأنها شأن باقي الحضارات – لا بد أن تشهد أفولًا، كما يُبرز الإدراك الذاتي للغرب لمحدودية قوته في مواجهة التحديات الداخلية والخارجية.
هذا الوعي بالهشاشة يولد شعورًا بالتهديد المستمر أمام الحضارات الأخرى، لا سيما تلك التي تستند إلى أنظمة قيمية ودينية مختلفة، فعلى الرغم من تقدمها العلمي والتقني، فإن الحضارة الغربية تعاني على الدوام من اغتراب داخلي، يجعلها تفقد تدريجيًّا بوصلتها الروحية التي تشكل نواة الوعي الجمعي، وهو ما يجعلها في حالة خوف دائم من الآخر الأكثر تماسكًا.
ولا يمكن إغفال ذلك في قراءة موقف الغرب من الحركات المقاوِمة داخل قطاع غزة، كنتاج لهذا الشعور بالهشاشة والدهشة أمام قوة متماسكة ذات طابع جماعي وديني، إلى درجة جعلت ميشيل أونفري في وقت سابق يصف المجتمعات المسلمة بأن لها "إحساسًا بالشرف"، وهو "شيء نادر للغاية في المجتمعات الغربية اليوم".
المأزق الذي يعيشه الغرب اليوم لا ينبع من قوة الشرق فقط، بل هو نتيجة هدم ذاتي لقيمه التي طالما قدمها كركائز للتقدم والهيمنة، وهو ما أصبحت معه الحداثة الغربية تعاني من فراغ روحي واغتراب ذاتي
الدين والعلمانية: صراع جوهري أم تكامل مستحيل؟
يقوم هذا الصراع إذن، في أحد أبعاده الأصيلة، على مواجهة قطبية بين الدين والعلمانية. الشرق، في نظر الغرب، هو فضاء الدين والتقاليد والجماعية، بينما يقدم الغرب نفسه كموطن للعلمانية والعقلانية والفردانية. ولكن، أهذا التقسيم حقيقي أم إنه نتاج خطاب سياسي وأيديولوجي؟
يؤكد إدوارد سعيد أن هذا الفصل مصطنع؛ فالغرب نفسه لم ينفصل عن الدين إلا على مستوى السطح، بينما ظلت البنى العميقة للثقافة الغربية متأثرة بجذورها المسيحية. على الجانب الآخر، ليس الشرق فضاءً جامدًا تقليديًّا، بل هو فضاء متعدد يملك قابليات للحداثة والتجديد.
نحو قراءة فلسفية للصراع الحالي
إن الحرب في غزة، وما تحمله من أبعاد تتجاوز الجغرافيا والسياسة، تُظهر بشكل جلي أن الصراع بين الشرق والغرب هو صراع حضاري بامتياز؛ إنه صراع على المعنى، على ماهية الهوية الإنسانية، وعلى مستقبل العالم في ظل التقدم التكنولوجي والتغيرات البيئية الكبرى.
يؤكد ميشيل أونفري أن الحضارات لا تنهار إلا حين تفقد قدرتها على التكيف والتجديد. وفي هذا السياق، يُظهر الشرق بقدرته على الصمود أنه ليس موضوعًا للمقاومة فحسب، بل مشروعًا حضاريًّا يسعى لإعادة تشكيل مكانته في العالم.
على أنه من المهم أن ندرك أن المأزِق الذي يعيشه الغرب اليوم لا ينبع من قوة الشرق فقط، بل هو نتيجة هدم ذاتي لقيمه التي طالما قدمها كركائز للتقدم والهيمنة، وهو ما أصبحت معه الحداثة الغربية تعاني من فراغ روحي واغتراب ذاتي، ما جعلها غير قادرة على التعامل مع أنظمة حضارية تمتلك تماسكًا داخليًّا وأسسًا روحية قوية، وهو ما يسقط العقيدة الحضارية الغربية في فخّ التناقض المؤدي إلى الصدمة الحضارية، كتلك التي عاشها الغرب في بداية العنف الهمجي على قطاع غزة مع السؤال الكبير: هل القيم التي تجعل الغرب يدافع عن أوكرانيا هي نفسها التي تبرر همجية الآلية الإسرائيلية في قطاع غزة؟
الحضارات لا تُحكم بالقوة وحدها، بل بقيم تُمكنها من مواجهة أسئلتها الكبرى، والأسئلة التي تهرب منها الحضارة الغربية اليوم قد تكون مفتاح إعادة تشكيلها أو سقوطها
إن عودة غزة إلى ما كانت عليه قبل الحرب ليست مجرد انتصار رمزي للشرق، كمفهوم فلسفي مجرد ذي بعد حضاري، بل هو تحطم جوهري لأحلام الغرب في بناء شرق قابل للتطويع والتشكيل وفقًا لمصالحه.
الغرب، الذي طالما كان له الحرص العميق على أن يُعيد تشكيل مستعمراته؛ لتكون امتدادًا لهيمنته، يجد نفسه اليوم أمام مكونات بشرية وثقافية مقاومة ترفض الانصياع، بل وتتجاوز ذلك لتقدم نموذجًا مغايرًا للهُوية الجمعية بكل أشكالها.
إن هذا الوضع يدعو الغرب إلى مواجهة حقيقة أزماته الداخلية؛ أزمات الهشاشة الثقافية والروحية التي جعلت قيمه غير قادرة على الانسجام مع سلوكياته واختياراته التاريخية.
إنه درسٌ فلسفي وتاريخي عميق بأن الحضارات لا تُحكم بالقوة وحدها، بل بقيم تُمكنها من مواجهة أسئلتها الكبرى، والأسئلة التي تهرب منها الحضارة الغربية اليوم قد تكون مفتاح إعادة تشكيلها أو سقوطها.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.