بعد 13 عامًا من اندلاع الثورة السورية، يشهد الشعب السوري اليوم تحولًا جذريًّا في البلاد بعد تحريرها من نظام الأسد الاستبدادي؛ فخلال هذه السنوات الطويلة من الصراع، عانت سوريا من ويلات الحرب، ما أدى إلى مقتل وسجن مئات الآلاف من المواطنين، وتشريد الملايين.
بعد سنوات طويلة من القتال، انتهت الحرب أخيرًا بهروب المخلوع بشار الأسد، معلنة بداية فصل جديد في تاريخ سوريا، هذا التحول يشكل فرصة حقيقية أمام البلاد لإعادة بناء الدولة على أسس من العدالة والمصالحة الوطنية الشاملة، إلا أن الطريق نحو تحقيق هذا الحلم لن يكون سهلًا، بل سيتطلب جهدًا جماعيًّا، وإرادة قوية، وتضحياتٍ جسامًا لتجاوز كل هذه التحديات.
في سوريا، ستكون العدالة الانتقالية أمرًا بالغ الأهمية؛ إذ شهدت البلاد انتهاكات جسيمة تفوق الخيال، مثل القصف العشوائي للمدنيين، واستخدام الأسلحة الكيميائية، والتعذيب داخل المعتقلات سيئة السمعة
عقب انهيار النظام السوري، أصبح أمام سوريا خياران رئيسيان: إما الانزلاق إلى الفوضى التامة، أو الشروع في مرحلة بناء وطن جديد يرتكز على العدالة والمصالحة بين كافة المكونات الاجتماعية والعرقية في البلاد.
ستكون هذه المرحلة من أكثر الفترات صعوبة، إذ يجب التوصل إلى حكومة توافقية تمثل جميع الأطياف في سوريا: (السنة، العلويين، الأكراد، المسيحيين، الدروز، وغيرهم).
في هذا السياق، يمكننا أن نستفيد من تجربة رواندا بعد الإبادة الجماعية التي حدثت في 1994؛ إذ رغم المجازر التي أسفرت عن مقتل نحو مليون شخص، تمكّنت رواندا من بناء حكومة وحدة وطنية ضمت كافة المجموعات العرقية، وأكبرها التوتسي والهوتو، حيث شكلت هذه الحكومة التوافقية خطوة أساسية في بناء الثقة بين الأطراف المتصارعة وإعادة وحدة البلاد. وعليه، ستكون تجربة سوريا مماثلة من حيث الحاجة إلى حكومة شاملة تضمن توزيعًا عادلًا للسلطة.
المصالحة والعدالة الانتقالية: معالجة جراح الماضي
من أهم الدروس، التي يمكن أن تستفيدها سوريا من التجربة الرواندية، أهمية العدالة الانتقالية.
بعد الإبادة الجماعية في رواندا، تم إنشاء محاكم خاصة لمحاكمة المجرمين، وفي الوقت نفسه اعتمدت آلية للمصالحة الوطنية تشمل الاعترافات العلنية من قبل الجناة. هذا النوع من العدالة الانتقالية كان أساسيًّا في إعادة بناء النسيج الاجتماعي في رواندا.
وفي سوريا، ستكون العدالة الانتقالية أمرًا بالغ الأهمية؛ إذ شهدت البلاد انتهاكات جسيمة تفوق الخيال، مثل القصف العشوائي للمدنيين، واستخدام الأسلحة الكيميائية، والتعذيب داخل المعتقلات سيئة السمعة. لذا، سيكون من الضروري محاسبة المتورطين في هذه الجرائم بطريقة عادلة وشفافة.
إعادة بناء الاقتصاد: من الدمار إلى التنمية
تعتبر إعادة بناء الاقتصاد من أبرز التحديات التي ستواجه الحكومة السورية القادمة؛ فالنظام دمر معظم البنية التحتية في أغلب المحافظات السورية، وتسبّب في تدهور كافة القطاعات الاقتصادية، من الزراعة والصناعة إلى الخدمات والتعليم، لهذا ستكون عملية إعادة الإعمار أمرًا بالغ الأهمية لضمان استقرار البلاد وعودة المهجّرين.
بالعودة إلى الحديث عن التجربة الرواندية: شرعت الحكومة التي تسلمت زمام الأمور بعد الحرب بقيادة بول كغامي في التركيز على تطوير القطاع الزراعي، وتحسين التعليم، وجذب الاستثمارات الدولية. وكذلك، سوريا بحاجة إلى سياسات مماثلة للتعافي الاقتصادي، ولكنها ستكون أكثر تعقيدًا، نظرًا للدمار الهائل الذي تعرضت له البنية التحتية في البلاد.
إن الشروع في عملية إعادة إعمار سوريا يتطلب تعاونًا وثيقًا مع المجتمع الدولي والدول العربية، للحصول على الدعم المالي والفني، ومن الضروري أيضًا تحسين بيئة الأعمال، وتوفير حوافز تشجع الاستثمارات المحلية والدولية. هذا سيسهم في خلق فرص عمل، وتحفيز النمو الاقتصادي المستدام، ما يعزز من قدرة البلاد على التعافي والعودة إلى مسار التنمية.
من أبرز المخاوف، التي قد تواجه سوريا بعد سقوط النظام، خطر الانزلاق إلى سيناريو مشابه لما شهدته الصومال عقب انهيار نظام سياد بري في عام 1991، حينها دخلت الصومال في دوامة من الفوضى السياسية والصراعات الأهلية الطاحنة بين المليشيات المتناحرة
التحديات الأمنية: الحفاظ على السلام والاستقرار
ستواجه سوريا تحديات أمنية جسيمة في مرحلة ما بعد الصراع، حيث سيكون من الضروري العمل على بناء قوات أمنية محايدة ومهنية، تلتزم بحماية المدنيين وضمان استقرار البلاد، على أن تكون هذه القوات خالية من التحيزات السياسية أو الطائفية، وأن تعمل تحت مظلة دولة القانون والمؤسسات.
وستظل هناك أيضًا تهديدات أمنية كبيرة، مثل الجماعات المسلحة والمجموعات المتطرفة، بالإضافة إلى التدخلات الإقليمية؛ لذا سيكون على الحكومة السورية الجديدة أن تبني نظامًا أمنيًّا قادرًا على مواجهة هذه التهديدات بشكل فعال.
الخشية من السقوط في فوضى مشابهة للصومال
من أبرز المخاوف، التي قد تواجه سوريا بعد سقوط النظام، خطر الانزلاق إلى سيناريو مشابه لما شهدته الصومال عقب انهيار نظام سياد بري في عام 1991، حينها دخلت الصومال في دوامة من الفوضى السياسية والصراعات الأهلية الطاحنة بين المليشيات المتناحرة، ما أدى إلى تفكك الدولة وتدهور أوضاعها بشكل كبير.
ختامًا، هذه رسالة في بريد الثوار في سوريا:
نعلم أن الألم كبير، وأن الجرح غائر وعميق، لكن يجب أن تتساموا على الجراح؛ فالتسامح هو المفتاح الذي يمكن أن يفتح أبواب النهوض بسوريا الحبيبة، سوريا الغد التي نطمح لها!. سوريا، التي ستسير من جديد بعد كل هذا الظلام والخراب والدمار نحو مستقبل أفضل بإذن الله، تتطلب منكم جميعًا أن تتحلوا بالحكمة والصبر والتعاضد، وأن تعملوا معًا لإعادة بناء وطنٍ تستحقونه.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.