بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأوّل 2023، هذا الموعد الذي دخل التاريخ، وكتب على أعلى بواباته بمداد من دماء الشهداء لا يمحى؛ كتبت على هذه المدونة، أول "تأملاتي في الطوفان"، مقالًا عنونته: غزة، انتصار الروح.
لم تزدنا الأيام رغم ما قاسيناه خلالها من مرارة فقدان القدرة على التأثير، سوى يقين أن غزة قد انتصرت. كان يسيرًا على المتأمل في آثار هذا العدوان بأن ينظر إلى الأحداث من علِ، أن يستشف أن ما حققته غزة الصغيرة المحاصرة، هو من قبيل ما يحدث في "عالم القدرة" الذي لا تحكمه الأسباب والنواميس. وأما اعتماد حسابات الربح والخسارة المادية فجناية بكل المقاييس.
وقفت غزة مثل فتى الأخدود وأصحابه، باذلة أرواحها في وجه طغاة البشرية. هذا الموقف وحده عنوان انتصار كبير، وإنه لمقام لا يدركه إلا الأقلون. هؤلاء الذين سطروا في التاريخ أن الحق يعلو وينبغي أن يعلو ويرفع، وأذن الله أن يعلو ويرفع، فضخوا بذلك نفسًا منعشًا استشعرته قلوب المظلومين في كل مكان. انتصرت غزة، لأنها بذرت في تلك القلوب جميعًا، بذرة إرادة المقاومة، وروح الشهادة.
دلت غزة على الإسلام، ودلت على الإنسانية والسلام. فكانت عنوانًا بارزًا للمشترك الإنساني
ودلت غزة بمواقفها وصبرها وثباتها، على ما أفاق الضمائر وحرك الأرواح في قلوب الحيارى حول العالم: المغتربين المستلبين أمام وسائل الإعلام المختلفة، تبعث على أثيرها جذابًا مثيرًا، وأرقامًا وأحداثًا ولهوًا ولعبًا وهوى وعريًا..؛ وغيرها مما يتسلل إلى أعماق الروح بالخنق. بهذا الاعتبار فقد انتصرت غزة انتصارًا كاسحًا، ولا أدل على ذلك من مشاهد التضامن العالمية، ومقاطع الوفود على الإسلام، فتحت أبوابه مشرعة غزةُ.
"إنهم يقصفونهم، ومع ذلك يقولون: الحمد لله، إنهم حرفيًا يشكرون الله"، قالت إحدى المتابعات غير المسلمات بتأمل كبير: "رؤية الشعب الفلسطيني الشجاع على قدر كبير من الإيمان والسلام، بينما عائلاتهم تقتل، إنه شيء لا يعقل"، قالت أخرى. "الأمر برمته وما يحدث في فلسطين دفع الكثير من الناس للتعرف إلى الإسلام وقراءة القرآن"، وقالت إحدى الأميركيات على مواقع التواصل الاجتماعي، وأضافت بابتهاج عميق: "ما سيحدث أن كثيرًا من الناس سيعتنقون الإسلام قريبًا".
أضافت أخرى: "إنه يحدث الآن، أرى كثيرًا من الناس يقرؤون القرآن، ويقررون اعتناق الإسلام، لأنهم يتساءلون، ما الذي يقع هناك؟". دلت غزة على الإسلام، ودلت على الإنسانية والسلام. فكانت عنوانًا بارزًا للمشترك الإنساني.
كتبت في مقالي المشار إليه سابقًا: "إن أي حدث يناجي هذه الروح التي تم خنقها خاصة في السياق الغربي، ينبهها من غفلة ويحييها من موات ويعيد إليها المبادرة استفهامًا وتعجبًا وتساؤلًا أولًا، ثم دعوة إلى الفطرة والإنسانية والأخوة المشتركة والتعاون الحضاري، والتعاطف والتعبير عن رفض قيم الظلم والقهر والعلو.. هو حدث هام وانتصار كبير للروح. لا أبالغ إن قلت أنه يؤسس لمرحلة أخرى من تاريخ البشرية".
لقد سطرت قطر، شاء من شاء وأبى من أبى، مثالًا رائعًا ناجحًا على مستويين كان لهما الفضل في تحقيق هذه الانتصارات: المستوى الإعلامي، والمستوى السياسي التفاوضي. ويمكن أن نضيف مستوى آخر إغاثيًا إنسانيًا، وإن كانت التدخلات الإنسانية مما تعرض للخنق والمنع
وإن سلمنا لمن يريد تحكيم الأرقام والنتائج بمنهجه، فإن كثيرًا من المحللين والمختصين حتى من الداخل الإسرائيلي، أشاروا منذ مدة ليست بالقصيرة، إلى أن غزة انتصرت، باعتبار صمودها رغم الفجوة المهولة بين الإمكانات.
فهنيئًا غزة. الرحمة للشهداء والشفاء للجرحى. والسلام على الأهالي وعلى الشجر والحجر. سادة البشرية أنتم إذ سطرتم هذه الملاحم. ولاشك أن من أبدع في إدارة هذه الأزمة بمبادرات رغم الخنق، تقاسمت الرغيف والسكن، ونظمت الحياة العامة رغم حجم الكارثة.. قادر على إعادة إعمار غزة، وقادر على الإبداع في إدارتها وتنميتها، وتحقيق تعافيها الذي نأمل أن يكون سريعًا.
قد يغيب في خضم هذه الأحداث، بسبب قدرة غزة المبهرة على شد الانتباه، انتصار آخر إضافي، سطره صحفيو غزة الذين دشنوا طرازًا آخر من الصحافة، وسطرته طواقم الصحة، وسطره مؤثرو مواقع التواصل الاجتماعي.
قد يغيب الانتباه لأطراف أخرى ساهمت مساهمات ينبغي أن تذكر وتشكر. لقد سطرت قطر، شاء من شاء وأبى من أبى، مثالًا رائعًا ناجحًا على مستويين كان لهما الفضل في تحقيق هذه الانتصارات: المستوى الإعلامي، والمستوى السياسي التفاوضي.
ويمكن أن نضيف مستوى آخر إغاثيًا إنسانيًا، وإن كانت التدخلات الإنسانية مما تعرض للخنق والمنع. فكانت بذلك خاصة في سياق الانبطاح العام، شامة بين الدول، ومثالًا وأملًا. فهنيئًا لغزة النصر، هنيئًا لها الانتصارات، وشكرًا قطر الداعمة، والحاضنة والإنسانية الخيرية.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.