شعار قسم مدونات

كوالالمبور: جسر جديد بين روسيا والعالم الإسلامي

انعقاد الاجتماع في مدينة تجمع بين عبق التاريخ وروح الابتكار يبعث برسالة قوية حول قدرة العالم الإسلامي على المساهمة الفعّالة في صياغة "ملامح" نظام عالمي جديد أكثر توازنًا (مواقع التواصل)

في خضم عالم متغيّر، يعجّ بالتحولات الجيوسياسية والاقتصادية، يتلاشى النظام أحادي القطب الذي ساد لعقود، ليُفسح المجال أمام نظام تعدّدي تتشكل ملامحه بخطى متسارعة.

في هذا السياق، برزت كوالالمبور، عاصمة ماليزيا، كمسرحٍ جديد لتلاقي المصالح والرؤى، مستضيفة اجتماع مجموعة الرؤية الإستراتيجية "روسيا- العالم الإسلامي" في ديسمبر/ كانون الأول 2024. الاجتماع، الذي جمع ممثلين عن 32 دولة، وحمل شعار "التعاون في عصر التعددية القطبية الناشئة"، لم يكن مجرد لقاء عابر؛ بل منصة لإعادة تعريف الأدوار، وتحديد الأولويات، ورسم معالم شراكة تعكس ديناميكيات عالمية جديدة.

التحول نحو التعددية القطبية يفتح فرصًا واعدة للدول الإسلامية وروسيا، لكنه يطرح تحديات معقدة؛ فالدول الإسلامية تواجه اختبارًا في مدى استعدادها لتوحيد رؤاها واستغلال إمكاناتها الاقتصادية والبشرية، رغم الانقسامات السياسية

كوالالمبور: رمز للاتصال الحضاري

لم يكن اختيار كوالالمبور محض صدفة، بل يعكس أبعادًا رمزية وحضارية تعكس مكانتها الفريدة كجسر بين التراث الإسلامي العريق والحداثة الاقتصادية والاجتماعية، حيث تجمع ماليزيا بين قيمها التقليدية ومقتضيات العولمة، ما يجعلها نموذجًا يُحتذى به في التفاهم الثقافي والتكامل الاقتصادي. ويتجلى ذلك بوضوح في ريادتها في مجال التمويل الإسلامي، حيث نجحت في تحويل هذا القطاع إلى محرك اقتصادي عالمي مؤثر.

إن انعقاد اجتماع بهذا الحجم، في مدينة تجمع بين عبق التاريخ وروح الابتكار، يبعث برسالة قوية حول قدرة العالم الإسلامي على المساهمة الفعّالة في صياغة "ملامح" نظام عالمي جديد أكثر توازنًا.

إعلان

تحولات التعددية القطبية تعيد التوازن

أصبحت التعددية القطبية محورًا أساسيًّا في النقاشات الدولية الراهنة، حيث أشار رستم مينيخانوف، رئيس مجموعة الرؤية الإستراتيجية ورئيس جمهورية تتارستان، إلى أن هذا التحول لم يعد مجرد نظرية، بل أصبح واقعًا يتشكل تدريجيًّا. وأوضح أن انهيار النظام أحادي القطب يعكس تراجع الهيمنة الغربية، ما يفسح المجال لدول مثل روسيا والدول الإسلامية للاضطلاع بأدوار أكثر تأثيرًا.

وركز المشاركون في مناقشاتهم على التحولات الجيوسياسية التي تؤشر إلى نهاية النظام أحادي القطب، وظهور نظام عالمي متعدد الأقطاب، مشددين على أهمية بناء شراكات إستراتيجية قائمة على الاحترام المتبادل والمساواة، وأن هذا النظام الجديد يتيح فرصة تاريخية للدول الإسلامية لإعادة تحديد دورها على الساحة العالمية، من خلال التعاون مع قوى صاعدة -مثل روسيا – لتحقيق التنمية المستدامة وتعزيز العدالة الدولية.

التحول نحو التعددية القطبية يفتح فرصًا واعدة للدول الإسلامية وروسيا، لكنه يطرح تحديات معقدة؛ فالدول الإسلامية تواجه اختبارًا في مدى استعدادها لتوحيد رؤاها واستغلال إمكاناتها الاقتصادية والبشرية، رغم الانقسامات السياسية.

في المقابل، تواجه روسيا ضغوطًا داخلية مثل تباطؤ الاقتصاد والعقوبات الغربية، إلى جانب التحديات الجيوسياسية التي تتطلب إدارة توازنات دقيقة مع شركائها. لذا حث المشاركون في الاجتماع على تحقيق التعاون الفعّال بتعزيز الشراكات بين روسيا والعالم الإسلامي في مجالات التعليم، والتكنولوجيا، والتجارة، والاستقرار الإقليمي. هذه الجهود المشتركة قادرة على تحويل التحديات إلى فرص، وإعادة تشكيل النظام الدولي بشكل أكثر عدالة وتوازنًا، يخدم مصالح جميع الأطراف.

تشير الإحصائيات إلى نمو التجارة بين روسيا والدول الإسلامية بنسبة 30%، ما يعكس آفاقًا إيجابية للتعاون. لكن يبقى التحدي في تحقيق استدامة هذا النمو في ظل اضطرابات الاقتصاد العالمي

التمويل الإسلامي: فرصة أم تحدٍّ؟

التعددية القطبية لم تعد مجرد مفهوم سياسي، بل تحولت إلى ساحة تنافس على النفوذ الاقتصادي، حيث تتجاوز العلاقات الثنائية حدود التجارة التقليدية لتسهم في إعادة تشكيل موازين القوى العالمية. في هذا الإطار، برز التمويل الإسلامي كأحد محاور التعاون الحيوية بين روسيا والعالم الإسلامي، نظرًا لما يحمله من إمكانات هائلة لتعزيز الشراكات الاقتصادية.

إعلان

ورغم الفرص الواعدة التي يقدمها هذا القطاع، يواجه تحديات بنيوية، خاصة في روسيا التي يعتمد اقتصادها بشكل كبير على النماذج التقليدية. لذا أكد المشاركون في اجتماع "روسيا- العالم الإسلامي" على أهمية التمويل الإسلامي كوسيلة مبتكرة لتعزيز الشراكات الاقتصادية العالمية، مع تسليط الضوء على حاجة روسيا لتطوير هذا القطاع.

كما أكد الخبراء على أن التمويل الإسلامي، القائم على مبادئ الشريعة مثل حظر الفائدة وتقاسم المخاطر، يشكل فرصة لروسيا للتفاعل مع الأسواق الإسلامية الواعدة، التي يقارب تعداد سكانها حوالي ملياري نسمة.

تشير الإحصائيات إلى نمو التجارة بين روسيا والدول الإسلامية بنسبة 30%، ما يعكس آفاقًا إيجابية للتعاون. لكن يبقى التحدي في تحقيق استدامة هذا النمو في ظل اضطرابات الاقتصاد العالمي، فالتحول إلى التمويل الإسلامي ليس مجرد خيار اقتصادي، بل يتطلب تعديلات جوهرية في السياسات المالية الروسية، وهو ما يبرز الحاجة إلى التنويع الاقتصادي، وتخفيف الاعتماد على قطاع الطاقة.

لا تزال الانقسامات السياسية وضعف الإستراتيجيات المتكاملة عائقًا أمام تحقيق نتائج ملموسة، ما يجعل التنمية الاقتصادية والتعليمية أمرًا ملحًّا في مكافحة التطرف

مواجهة الإرهاب بتكامل إستراتيجي شامل

التطرف والإرهاب يشكلان تحديات جسيمة تواجه روسيا والعالم الإسلامي، ويتطلبان استجابة شاملة متعددة الأبعاد تتجاوز الحلول الأمنية التقليدية، إذ لا يمكن مكافحة هذه الظاهرة بمعزل عن معالجة جذورها الاجتماعية والثقافية. في هذا السياق، أبرز الاجتماع دور منظمة التعاون الإسلامي، كجهة محورية قادرة على قيادة جهود مستدامة لتعزيز التعليم والمبادرات الفكرية لمواجهة الفكر المتطرف.

محمد صلاح التقية، مدير الشؤون السياسية في منظمة التعاون الإسلامي، أكد في جلسات الاجتماع أن الأيديولوجيات المتطرفة تستغل الأزمات الاجتماعية والاقتصادية لزيادة نفوذها. وعليه، فإن إطلاق شراكات تعليمية بين روسيا والعالم الإسلامي يمكن أن يسهم في صياغة مناهج تعليمية تعزز قيم التسامح والتعايش. إضافة إلى ذلك، فإن تنظيم منصات حوار تجمع قادة الفكر يُعد خطوة ضرورية لتطوير حلول مستدامة، تُعالج الجوانب الفكرية لهذه الظاهرة.

إعلان

رغم ذلك كله، لا تزال الانقسامات السياسية وضعف الإستراتيجيات المتكاملة عائقًا أمام تحقيق نتائج ملموسة، ما يجعل التنمية الاقتصادية والتعليمية أمرًا ملحًّا في مكافحة التطرف. في هذا الإطار، شدد رئيس الوزراء الماليزي أنور إبراهيم على أن الإسلاموفوبيا والتمييز وعدم المساواة هي تحديات متداخلة، تتطلب نهجًا تعاونيًّا شاملًا، وأكد على أن تفعيل التعليم وتمكين الشباب يمكن أن يسهما في إعادة تشكيل صورة العالم الإسلامي، مع تعزيز قوته الناعمة عبر حوار بين الأديان والتفاهم الثقافي، ما يُمكّن العالم الإسلامي من أداء دور محوري في نظام عالمي متعدد الأقطاب.

أجمع المشاركون في الاجتماع على أن استمرار العدوان الإسرائيلي يعزى إلى الانقسامات الدولية، وضعف الإجماع السياسي، ما يستدعي تعاونًا أعمق بين الدول الإسلامية وروسيا

فلسطين: رمز عالمي للعدالة

في النقاشات الإستراتيجية، برزت القضية الفلسطينية كرمز عالمي للعدالة في مواجهة الهيمنة، متجاوزة حدود النزاع الإقليمي لتصبح قضية إنسانية وأخلاقية شاملة. ماليزيا، بقيادة أنور إبراهيم، طرحت القضية خلال الاجتماع كاختبار للضمير الإنساني، داعية إلى حلول قائمة على الإنصاف. من جهتها، تدعم روسيا حل الدولتين كمفتاح للاستقرار الإقليمي، لكنها تواجه معضلة في التوفيق بين خطابها الداعم للفلسطينيين، وعلاقاتها الوثيقة مع إسرائيل التي تخدم مصالحها الجيوسياسية.

ومع ذلك، أجمع المشاركون في الاجتماع على أن استمرار العدوان الإسرائيلي يعزى إلى الانقسامات الدولية، وضعف الإجماع السياسي، ما يستدعي تعاونًا أعمق بين الدول الإسلامية وروسيا.

وشملت المقترحات العملية تكوين تحالفات داخل الأمم المتحدة؛ لضمان تنفيذ القرارات الأممية بشأن فلسطين، وتعزيز المساعدات الإنسانية لسكان غزة المحاصرين، إضافة إلى دعم مبادرات إعلامية وثقافية لتعزيز الوعي بالقضية عالميًّا، ومبادرات لدعم الاقتصاد الفلسطيني وتعزيز صمود شعبه.

ومع أن هذا التوافق الظاهري يعكس نوايا إيجابية، فإن الخطابات الأخلاقية غالبًا ما تصطدم بالمصالح الجيوسياسية، ما يجعل الالتزام العملي أقل وضوحًا، فدعم الفلسطينيين يتطلب أكثر من بيانات وشعارات، فهو يتطلب مبادرات سياسية واقتصادية فاعلة تُترجم التضامن إلى تغييرات ملموسة.

تمثل إعادة إعمار سوريا فرصة مشتركة قد توحد الجهود الروسية والإسلامية، إذ تجمع بين المصالح الاقتصادية لروسيا والقيم الإنسانية التي تسعى الدول الإسلامية إلى تعزيزها

الأزمة السورية: اختبار الشراكة

خلال جلسات الاجتماع، برزت الأزمة السورية كأحد المحاور المركزية للنقاش، حيث أجمعت الأطراف المشاركة على أهمية الدور الروسي في صياغة مسار الحلول السياسية لهذا النزاع. أكدت روسيا، عبر كلمات وزير خارجيتها سيرغي لافروف، التي ألقاها نائبه أندري رودينكو، على ضرورة تعزيز الاستقرار الإقليمي من خلال حلول دبلوماسية تضمن السيادة السورية، مع تجنب التدخلات الغربية التي -وفق الرؤية الروسية – تزيد الأوضاع تعقيدًا.

إعلان

جاء هذا فيما ناقش المشاركون التداعيات الكارثية للأزمة السورية على المنطقة، مسلطين الضوء على تفاقم التحديات الإنسانية والسياسية، بما في ذلك موجات النزوح، وانتشار التطرف، وتأثيرات الصراع على الاستقرار الإقليمي. وأكدت روسيا التزامها بدعم السيادة السورية وتعزيز الحوار بين الأطراف المختلفة، مع الإشارة إلى أهمية مشاركة الدول الإسلامية في إعادة إعمار سوريا واستعادة استقرارها.

رغم ذلك، ظهرت تساؤلات حيال مصداقية روسيا في موازنة التزاماتها تجاه النظام السوري مع مسؤولياتها كعضو في المجتمع الدولي. دعا بعض المشاركين إلى تحويل الخطابات الروسية إلى خطوات عملية ملموسة، خاصة فيما يتعلق بتخفيف الأزمة الإنسانية وضمان استقرار البلاد.

تمثل إعادة إعمار سوريا فرصة مشتركة قد توحد الجهود الروسية والإسلامية، إذ تجمع بين المصالح الاقتصادية لروسيا والقيم الإنسانية التي تسعى الدول الإسلامية إلى تعزيزها. هذه المبادرة يمكن أن تُحوّل التباينات إلى منصة للتكامل والتعاون، ما يمنح الشراكة بين روسيا والعالم الإسلامي بُعدًا عمليًّا.

مع ذلك، تظل هناك تحديات بارزة؛ ففي الوقت الذي ترى فيه روسيا الأزمة السورية كساحة لتعزيز نفوذها الجيوسياسي، تركز الدول الإسلامية على البعد الإنساني وانتقال السلطة بشكل سلمي، ما يكشف اختلاف الأولويات. يبقى السؤال الجوهري: أيمكن لهذه الشراكة أن تتجاوز التناقضات بين المصالح الجيوسياسية والقيم الإنسانية، أم إنها ستظل رهينة الخطابات دون تحقيق تغييرات ملموسة على الأرض؟

هل ستتمكن الدول الإسلامية وروسيا من تجاوز المصالح الضيقة، وتوحيد جهودها لتحقيق تغيير حقيقي؟

أولويات العمل لعام 2025

حدد اجتماع مجموعة الرؤية الإستراتيجية "روسيا- العالم الإسلامي" في توصياته الختامية أولويات العمل لعام 2025، وتضمنت تعميق التعاون مع منظمة "الإيسيسكو" في التعليم والبحث العلمي، وتعزيز الشراكات بين الجامعات الروسية والإسلامية، كما تقرر عقد طاولة مستديرة في جدة لتعزيز خارطة طريق المبادرات المشتركة.

إعلان

وشدد الاجتماع على الحفاظ على القيم الدينية من خلال تعزيز الحوار بين الأديان، ومكافحة الإسلاموفوبيا والتطرف، مع دعم حقوق الكنيسة الأرثوذكسية الروسية. كما أكد الاجتماع على أهمية التعاون بين الإسلام والأرثوذكسية كأساس لتعزيز الشراكة. بالإضافة إلى ذلك، ستُستثمر خبرة ماليزيا في التمويل الإسلامي عبر مشاريع تجريبية في تتارستان.

واستجابةً لمقترح رئيس الوزراء الماليزي أنور إبراهيم، يعتزم مجلس الخبراء التابع للمجموعة دراسة إنشاء فريق تحليلي متخصص، حيث سيعمل هذا الفريق، بالتعاون مع مؤسسة شريكة، على متابعة التطورات العالمية، وإعداد تقارير تحليلية دقيقة، واستكشاف فرص جديدة تهدف إلى تعزيز العلاقات بين روسيا والعالم الإسلامي.

رمزية كوالالمبور ودورها كجسر للحوار

الاجتماع الذي احتضنته كوالالمبور لم يكن مجرد لقاء دبلوماسي عابر، بل شكّل منعطفًا يعكس التحولات العميقة في النظام الدولي الناشئ. اختيار ماليزيا كمقر لهذا الحدث لم يكن صدفة؛ فهي بجغرافيتها الإستراتيجية وثقافتها الغنية بالتنوع، قدمت نموذجًا ملهمًا لقدرة الدول الإسلامية على المساهمة الفعّالة في صياغة "ملامح" نظام عالمي جديد أكثر توازنًا.

رغم التطلعات الكبيرة والتوصيات الواعدة التي أسفر عنها الاجتماع، تبقى التحديات قائمة؛ فمن الانقسامات السياسية التي تعصف بالعالم الإسلامي، إلى الضغوط الاقتصادية والسياسية الدولية، تتعاظم الحاجة إلى تحويل هذه الفرص إلى إستراتيجيات عملية تُحدث فرقًا ملموسًا في ميزان العلاقات الدولية.

والسؤال الجوهري هنا: هل ستتمكن الدول الإسلامية وروسيا من تجاوز المصالح الضيقة، وتوحيد جهودها لتحقيق تغيير حقيقي؟

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان