شعار قسم مدونات

كيف وصلت سوريا إلى تلك اللحظة الراهنة؟

وزير الخارجية الكويتي عبد الله اليحيا خلال زيارته لدمشق وزارة الخارجية الكويتية - @MOFAKuwait
مؤتمر صحفي لوزير الخارجية السوري ونظيره الكويتي (يسار) والأمين العام لمجلس التعاون الخليجي (يمين) في دمشق (مواقع التواصل)

التحولات الدرامية التي تحدث في سوريا ومنطقة الشام والهلال الخصيب ليست من أفعال العبث أو العشوائية؛ ولا يمكن وصفها بمؤامرات تامة وكاملة الصنع. هذه البقعة -ونحن معها- تمر بحلقة مهمة من حلقات الربيع المتفجر الذي اندلع قبل 14 عاما؛ ولم يكن بركان 7 أكتوبر/ تشرين الأول بعيدًا عن كل هذا، بل هو في صميمه.

وحتى لا نقع أسرى ظاهرتية الأحداث الحالية بأطرافها وشخوصها؛ فإن ما يحدث وما وصلت إليه التداعيات الحرة هو ارتكاسة كاملة لـ 3 قضايا مهمة، اختمرت بما فيه الكفاية، واستحقت تسديد مديونياتها وفواتيرها المؤجلة؛ سأحاول تلخيصها بأكبر قدر، وإن كانت الواحدة منها تحتاج إلى مساحات واسعة من التفصيل:

الواقع الطائفي المهيمن على المشهد يخدم رؤية إسرائيل لنفسها ولمن حولها، ووجود جوار ديمقراطي شعبي هو خط أحمر من إسرائيل التي تشعر بلا شك بحزن على فقدان نظام الأسد، الذي ظل يحمي الحدود معها لأكثر من 4 عقود

الأولى، سايكس بيكو: لم تكن مجرد اصطناع حدود جغرافية، بل كانت وما زالت تلاعبًا كبيرًا ومتعمدًا وسرطانيًا في هوية وتركيبة مجتمعات تلك المنطقة، حتى غدت الحدود طائفية وعرقية وإثنية، وتطلب الأمر على تلك القاعدة السرطانية إقامة أسس دول قوميّة حديثة؛ فكان الفشل هو الحكم عليها من قبل أن تبدأ.

حتى النخب العربية، التي كان لديها طموح وخطاب دعائي للوحدة العربية وإزالة حدود سايكس بيكو، هي نفسها كانت تتنافس فيما بينها للفوز بمقعد متميز داخل هذه الحدود المجزأة؛ فإلى الآن – مثلًا- نظام المحاصصة اللبناني الحالي قائم على آخر تعداد سكاني تم في عام 1932.

إعلان

ظل التمادي الأخرق في ظل هذه الحدود، بل والتجذير والتأسيس لها عند لحظات بناء الوعي القومي الجديد؛ وخرجت علينا محاولات تأطير الهوية المحلية الجديدة من خلال ردة ثقافية، تبحث عن الفينيقية والآشورية والفرعونية.. إلخ؛ ظنًا أن ذلك ضمانة نشأة دولة علمانية قومية على أنقاض ولايات الإمبراطورية العثمانية.

فالاقتسام الجغرافي العرقي الطائفي في سوريا الآن هو محصلة منطقية لميكانيزمات سايكس بيكو، وقد تجلى بوضوح في حالة الاحتراب والدعم الذي تلقته المعارضة والنظام على السواء طيلة الـ12 عامًا السابقة، وهو مستمر في مرحلة التأسيس لما بعد نظام الأسد.

الثانية، بنية الدولة القومية العربية الحديثة: حوصرت وتقيدت بأخطاء وعيوب بنيوية عدة عند بداية النشأة ومحاولات التأسيس في القرن الـ19، أو حتى محاولات التحديث عقب الحرب العالمية الثانية وقبيل الاستقلال؛ فالمجتمع العربي الحديث بالدولة التي خلقها لم يبعث في الواقع طائفية أو عصبوية جماعات الأقلية التي كانت موجودة من قبل؛ ولكنه بعث -وهذا هو الجديد – العصبوية الأغلبية التي بسبب صدها عن السلطة والدولة تراجعت إلى المفهوم الثقافي للقومية، ووحدت نفسها مع العرق أو الدين؛ ففشلت في بناء دولة قومية تبلور إرادة عامة وإجماعًا سياسيًا وثقافيًا (إجماعًا وليس تطابقًا)، وبدلًا من ذلك تم اختلاق عقيدة منزهة "قوموية" مقدسة، وفرضها قسر التخلق الإجماع بالقوة على حسب توصيف برهان غليون.

حتى العلمانية التي أتت بها هذه الدولة كانت أداة استبداد من أعلى، لا ثقافة جماهيرية تسعى للتحرر والحراك والعدالة مثلما حدث في أوروبا؛ وتم طمس الهويات النشطة والفعلية القائمة لصالح هوية علمانية مستبدة، لم تحقق التحديث العلمي/ الفكري، أو التحديث السياسي أو الديمقراطية أو المواطنة أو التسامح، بل وصلت لذروة تناقضاتها واستجارت بالدين في اللحظات الحرجة من تموضع شرعيتها.

إعلان

فبعد الخروج من إطار الإمبراطورية الإسلامية، عجزت الدولة القومية عن إيجاد الثقافة العليا التي تعيد صياغة الجماعة الوطنية والسياسية، وتعيد صياغة قيم النظم القديمة أو الجزئية للجماعات دون أن تلغيها، كي تنشئ دولة تحتوي الجميع وتتيح للكل الدخول في لعبة الصراع على السلطة، ومن ثم تأسيس السلطة الحاكمة.

إحدى أهم أزمات الدولة العربية القومية الحديثة، التي خرجت عن الإمبراطورية والمنطلقة إلى الغرب -التي لمحها غليون بمهارة-، أنها لم تجد غير عبادة القوة العسكرية والتكنولوجيا، كمثل أعلى للحداثة يلف حوله الجماعة القومية الجديدة، لكنها لم تقدم هدفًا أسمى، ولا معايير اجتماعية عليا تستخرج الإجماع الضروري لكل نهضة وتأكيد الذات.

حتى محاولات التحديث السياسي والاقتصادي -التي قادتُها نخبتها الحاكمة- لم تكن تقدمية، وظلت حبيسة نخبتها، ولم تضع فرص اندماج متوسع لفئات اجتماعية جديدة. وفي النهاية سقطت جماهيرها في صراع مفقر بين النظرية الإسلامية والنظرية القومية العلمانية، وكلتاهما لم تستطيعا تاريخيًا تأكيد صحة اعتباراتهما.

ثالثًا، الصهيونية والاستعمار: وضح أن الحدود المتعارك عليها، والمصابة بورم التشظي العرقي والطائفي، هي صنيعة استعمارية في الأساس، لكن الأمر لم يقف عند هذا الحد؛ فقد زرع الاستعمار الكيانَ الصهيوني في قلب وعصب المجتمع العربي كسرطان ملازم له على الدوام؛ وعلى طبيعة جدلية مناقضة لأي مشروع تحرري أو حداثي حقيقي، تزامن وعد بلفور مع سايكس بيكو؛ والتخلص من هذا السرطان يستلزم اقتلاع الاثنين معًا.

لا يمكن التنبؤ بالغد السوري بعد أن صارت أرضه مرتعًا لكل الضباع، وعجزت عن أن تقدم لنفسها الآن نخبة وطنية قوية، ترفع يدها مع المنتصرين الحاليين؛ فلتعلن سوريا أسطورتها الحية من قاعها الشعبي والوطني كما الفينيق!

ما قامت به إسرائيل مؤخرًا من تدمير القوة العسكرية السورية عقب الإطاحة ببشار الأسد يقول الكثير والكثير؛ فالواقع الطائفي المهيمن على المشهد يخدم رؤية إسرائيل لنفسها ولمن حولها، ووجود جوار ديمقراطي شعبي هو خط أحمر من إسرائيل التي تشعر بلا شك بحزن على فقدان نظام الأسد، الذي ظل يحمي الحدود معها لأكثر من 4 عقود، ويحمل أيديولوجيا ممانعة شديدة السخف والانحطاط، وظل يستدين من المقاومة وقضية فلسطين دون يقدم لهما شيئًا.

إعلان

آفة الاستعمار لم تقف حكرًا على المستعمر الغربي والصهيوني، بل هي أيضًا في المستعمر المتشدد في قوميته ومصالحه واستغلاله؛ فكم من طرف إقليمي يدب بأقدامه وقواته وأمواله في سوريا منذ 2011؟ دخلوا باسم حماية الثوار أو حماية النظام، لكن كانت رغبتهم هي الامتياز والسيطرة، وهذا سبب صراعهم- توافقهم مع المستعمر الغربي.

فالمعارضة المسلحة التي حررت دمشق تمثل ذروة السوريالية السياسية العالمية تجاه ثورة سوريا؛ جبهة النصرة (الاسم الأول لهيئة تحرير الشام)، التي تلقت الدعم المباشر والصريح من دول إقليمية، أصبحت إرهابية في وقت لاحق، ثم أصبحت الآن الأداة الجماهيرية التي أزاحت نظام الأسد!

ختامًا؛ سوريا الآن -ومعها كل بلاد الربيع – على مفترق طرق؛ فإما أن يتبع ذلك نفق مظلم عند نهاية النور، أو امتداد للنور الذي سطع بسقوط نظام بشار، وعليها تسديد مديونيات من فعل جدليات التاريخ المحلي أولًا، ثم مواجهة المستعمر الأجنبي ثانيًا، وهذا يتوقف على ألا تتوقف "لحظات" الاحتجاج عند هذا الحد، وتقع في فخ اللابديل الذي ابتُلي به الربيع.

يجب أن تتحول لحظات الاحتجاج إلى "حركات" احتجاج وتحافظ على دوامها، كما أشار إيفان كراستف؛ حتى ترشد نفسها والجماهير لما هو مطلوب بعدما أخبرت الجميع بما هو مكروه، وتحدد وجهة التغيير المطلوب. إن ما جعل بشار مستعصيًا على السقوط 12 عامًا، ويمارس كل هذه السادية، أنه استطاع أن يقيم على تخوم التناقضات المحلية والإقليمية حتى ضاقت به.

لا يمكن التنبؤ بالغد السوري بعد أن صارت أرضه مرتعًا لكل الضباع، وعجزت عن أن تقدم لنفسها الآن نخبة وطنية قوية، ترفع يدها مع المنتصرين الحاليين؛ فلتعلن سوريا أسطورتها الحية من قاعها الشعبي والوطني كما الفينيق!

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

إعلان

إعلان