شعار قسم مدونات

الحرب والرواية والتاريخ

جيش المماليك صورة تعبيرية المصدر : ميدجيرني
إذا كانت الرواية شاهدة على تاريخ الحروب، ففي زمن الانفجار الإعلامي ينبغي أن تكون أكثر شهادة وممانعة (ميدجيرني)

تشكّل الحروب والمآسي تجارب إنسانية تمتزج بالطبيعة البشرية منذ نشأتها، لتصبح بذلك مادة أساسًا للنص التاريخي والأدبي على حد سواء. وفي عالمنا العربي المثقل بالحروب والأزمات، تجدُ الرواية والتاريخ نفسيهما أمام رهان توثيق وتخليد التجارب الإنسانية المعيشة، ومعالجتها بهدف قولِ الواقع وإيصال التجربة.

يحسِم ابن خلدون في الطبيعة البشرية والحتمية للحرب، في مطلع حديثه عن الحرب ومذاهب الأمم وترتيبها، فيقول: "اعلم أنّ الحروب وأنواع المقاتلة لم تزل واقعة في الخليقة منذ برأها الله، وأصلها إرادة انتقام بعض البشر من بعض، ويتعصب لكل منها أهل عصبيته، فإذا تذامروا لذلك وتوافقت الطائفتان، إحداهما تطلب الانتقام والأخرى تدافع، كانت الحرب. وهو أمر طبيعي في البشر، لا تخلو عنه أمة ولا جيل".

وهو بذلك يتماهى مع النظر الأفلاطوني الذي يرى أن انخراط النفس البشرية في هذا الصراع الذي هو الحرب، لا يكون بالأصالة بل بالاضطرار، إما لقصد النَّهب، أو لقصدِ الدفاع لوقاية المدينة "مما يمكن أن يروِّعها من خارج"، بتعبير الأستاذ أحمد شحلان في كتابه "جوامع سياسة أفلاطون".

ولأن الرواية امتداد للشكل الأدبي الملحَمي اليوناني -كما يرى هيغل، ويتابعه في ذلك لوكاتش وغولدمان وآخرون – فإن حضور الإنسان والصراع داخل الرواية شكلٌ من أشكال الارتباط المنطقي، الذي لا يمكن أبدًا أن تنفصل مرابطه، لأنه ببساطة شكل من أشكال الكينونة الإنسانية المستمرة باستمرار وجود الإنسان نفسه.

إذا كانت الرواية شاهدة على تاريخ الحروب منذ كان الإنسان، فإنها في زمن الانفجار الإعلامي والزخْم الإخباري، وتزييف الحقائق وتشويهها، وقلب التاريخ وكتابته بمداد شفاف، ينبغي أن تكون أكثر شهادة وممانعة واستفزازًا وجُموحًا

ولأن الحرب -كما تقدّم – لم تزل واقعة في الخليقة منذ برأها الله، كما قال ابن خلدون، فإن التاريخ أيضًا ليس سوى ذلك السرد التراكمي لتاريخ الحروب، أو لتاريخ الصراع الإنساني الملازم لكينونة الإنسان، وهي نقطة اشتراك عميقة بين التاريخ وبين الرواية، في علاقتهما بالتأريخ لتجربة الصراع الإنساني في أسمى تجلياته، الذي هو الحرب.

إعلان

على أن مهمة المؤرخ تبقى منحصرة في النقل الحرفي الموثّق للوقائع التاريخية، بتجرد مفروض وبموضوعية مدّعاة، وبكثير من التماهي مع رواية المنتصر الحامل للقلم بالتعبير المعاصر، فيما يكون بمقدور الرواية بشكل طبيعي أن تسترجع التاريخ بقدرة عالية على التخييل والانتصار للآخر المنهزم، وإضاءة مناطق الظلال التي لم يغطِّها النص التاريخي أو سكت عنها.

وإذا كانت الرواية شاهدة على تاريخ الحروب منذ كان الإنسان، فإنها في زمن الانفجار الإعلامي والزخْم الإخباري، وتزييف الحقائق وتشويهها، وقلب التاريخ وكتابته بمداد شفاف، ينبغي أن تكون أكثر شهادة وممانعة واستفزازًا وجُموحًا. فإذا لم ينشط العمل الروائي اليوم لينقل بنفَس تخييلي العنف على قطاع غزة مثلًا، أو الانتهاكات الواقعة في السودان، أو فظائع سجن صيدنايا، فما معنى الرواية وما الداعي لوجودها؟

أفق الرواية العربية في زمن الحرب

إذا كانت الروايةُ -في جوهرها – الحاملَ الفني الأول للتاريخ الإنساني، فإنها اليوم تقف عند مفترق طرق في مواجهة تحديات الحرب والصراع بأشكالهما المختلفة. وفي ظل ما يشهده العالم العربي من حروب مدمّرة وأزمات إنسانية متفاقمة، يتضاعف دور الرواية كوسيلة إبداعية قادرة على استنطاق المسكوت عنه، وكشف عمق المأساة الإنسانية، لكن السؤال المطروح بإلحاح هو: إلى أي مدى استطاعت الرواية العربية مواكبة زخم اللحظة؟ أباتت الرواية العربية أداة فاعلة في تأريخ تراجيديا الواقع وتأزّمه، ومعالجة آثاره، أم إنها ما زالت رهينة العزلة الجمالية والخطاب النخبوي؟

الرواية العربية بين التوثيق والتخييل

الرواية ليست مجرد انعكاس سلبي للواقع، بل هي مساحة لإعادة تشكيله؛ لقد أثبتت تجارب روائية عربية معاصرة، كتجربة عبدالمجيد سباطة مع الملف 42، أو تجربة عبدالكريم جويطي مع ثورة الأيام الأربعة، أن العمل السردي قادر على التقاط تلك اللحظات الإنسانية الهشّة، المتساقطة من بين أصابع المؤرخين، وإعادة بنائها في قالب سردي قادر على إعادة تشكيل صورة واضحة حول التجربة الإنسانية المنقولة، وظروفها وسياقاتها ومعاناة الإنسان فيها، حتى وإن كان ذلك بشكل متفاوت المسافة عن الحدث التاريخي بوصفه واقعةً، لتتحول الرواية بذلك إلى منصة لإعادة التأريخ من منظور الهامش والظل، وكشف الأبعاد النفسية والثقافية والعاطفية للصراع، التي يعجز المؤرخ المحايد عن الخوض فيها، إما لأنها ليست من مهمته، وإما لأنه لا يستطيع.

إعلان

ولعل أبرز التحديات التي تواجه الرواية العربية اليوم هو الخروج من دائرة الواقعية المفرِطة الساقطة في الابتذال، أو التخييل المفرِط الغارق في الفانتازيا، إلى خطاب أكثر تحررًا وجرأة.

إذا كانت الرواية العربية في زمن الحرب مطالبة بموقف أخلاقي وإنساني، يتمثل ببساطة في أن تقوم بدورها، فإنها أيضًا مطالبة بإعادة النظر في أدواتها وتقنياتها

ذلك يعني تبني تقنيات سردية مبتكرة، وتجريب أشكال جديدة تعكس تعقيد الصراعات الحديثة، وعمق الأزمة الجمعية التي نعيش. فالحرب اليوم لم تعد مجرد معارك على أرض الواقع، بل تمتد إلى صراعات إعلامية ونفسية وثقافية، ما يجعل مهمة الروائي اليومَ أكثر تشعبًا وتعقيدًا.

النصوص والوقائع التاريخية مادةً للرواية

وأنت تقرأ تاريخ بغداد، أو التاريخ الكبير للطبري، أو تاريخ دمشق، أو تاريخ الضعيف الرباطي، أو أي كتاب آخر في التاريخ، ثمَّ وأنت تطالع مئات المقاطع لضحايا القصف الإسرائيلي على قطاع غزة، أو تستمع لشهادات المغتصبات في السودان، أو شهادات معتقلي سجن صيدنايا، فإنك حتمًا ستجد نفسك أمام آلاف النصوص والوقائع التي تصلح مادة روائية، إذ يقف فيها المؤرخون أو الإعلاميون أو الضحايا على وصف الحدث وأطرافه، وتواريخ وقوعه وأمكنة ذلك، دون الدخول في تفاصيل أخرى من شأنها أن توصِل التجربة إلى عمق شعور المتلقي.

وهنا تكمن مهمة الروائي الأصيلة، التي تنطلق من كون الرواية ملحمة لزمننا المعاصر، ومهمة الملحمة سرد الحكاية، ونقل التجربة، وتصوير البطولة، وكم من بطل لا يُرى في نصوص المؤرخين ومقاطع الأخبار وقصاصات الوكالات.

فإذا كانت الرواية العربية في زمن الحرب مطالبة بموقف أخلاقي وإنساني، يتمثل ببساطة في أن تقوم بدورها، فإنها أيضًا مطالبة بإعادة النظر في أدواتها وتقنياتها. إذ من الضروري أن تتجاوز الرواية مجرد وصف المعاناة إلى الكشف عن جذورها الاجتماعية والنفسية والعاطفية، ومن مجرد استعادة المأساة إلى مساءلة النظام الفكري والاجتماعي الكلّي الذي ينتجها، وطرح الأسئلة الكبرى على الإنسان وسيرورته الكبرى، فالرواية ليست ملاذًا للهرب من الواقع أو الانفصال عنه، بل هي مساحة للمقاومة الفكرية والإبداعية.

إعلان

ولأن الحاجة اليوم ماسَّة لأن نضع القارئ العربي أمام المرآة، لتعريته من أوهامه، في أفق زرع بذور الوعي ومقاومة الصدأ الفكري، الذي يحول بيننا وبين الانعتاق من الحروب والأزمات ومعيقات النهضة والقيام، فإن الرواية في جوهرها تشكل واحدة من أنجع الوسائل لتحصيل ذلك. فهل نحن أمام جيلٍ روائي واعٍ بذلك، وقادر على خوض هذه المعركة الأدبية؟

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان