شعار قسم مدونات

ثمن النصيحة: مأساة الصيدلانية الدمشقية التي ابتلعها الظلام

مدونات - سجن الأسد صيدنايا
على مدار 41 عامًا عاشت الدكتورة في ظلمات معتقل صيدنايا الذي اشتهر بكونه واحدًا من أكثر المعتقلات قسوةً في العالم (مواقع التواصل)

في شتاء عام 1983، كانت دمشق لا تزال تحتفظ بهدوئها الممزوج بضجيج الحياة اليومية، حيث ينسج سكانها قصصهم بين الأزقة والمحال.

وسط هذا المشهد، عاشت الدكتورة الصيدلانية حياة بسيطة وهادئة، تدير صيدليتها في حيٍ شعبي بكل حب وتفانٍ، عُرفت بين جيرانها بحكمتها وبساطتها، فكانت ملاذًا للجميع ليس فقط لتلقي الدواء، بل أيضًا للنصيحة.. لكن نصيحة واحدة، قيلت بحسن نية، أصبحت نقطة تحول مأساوية في حياتها.

مرت الأيام والأسابيع، ثم تحولت إلى شهور وسنوات، لكن الغياب ظل غامضًا ومؤلمًا، لا أحد يعلم أين اختفت، ولا إن كانت على قيد الحياة

البداية: نصيحة بريئة ومصير مظلم

في أحد الأيام من ذلك العام، جاءت جارتها المقربة لتزف خبرًا يراه كثيرون عاديًّا، لكنه حمل معه شرارة مأساة لم تكن في الحسبان، أخبرتها أن ضابطًا شابًّا من الساحل "ينتمي للطائفة العلوية" تقدم لخطبة ابنتها، استمعت الدكتورة بإنصات، ثم قدمت نصيحة نابعة من خوفها على مستقبل الأسرة، وأشارت بحذر إلى أن الاختلافات الدينية والثقافية بين العائلتين قد تخلق مشكلات يصعب تجاوزها.

لم يكن في كلامها سوى تعبير صادق عن رأيها، لكنها لم تعلم أن نصيحتها ستصل إلى مسامع الضابط عبر الفتاة، التي كانت الطبيبة حريصة عليها في نصيحتها، ليُفسر حديثها كإهانة تمس كرامته ومكانته الاجتماعية، وهيبة الدولة القمعية التي كان يمثلها.

الإخفاء القسري

في اليوم التالي، توقفت سيارة أمنية أمام الصيدلية.. نزل منها رجال بملابس رسمية، اقتحموا المكان بعنف أثار الفزع بين المارة والجيران، أمسكوا بالدكتورة وسحبوها أمام أعين الجميع دون تفسير!. كانت تلك اللحظة آخر مرة يراها فيها أحد خارج أسوار السجون.

إعلان

مرت الأيام والأسابيع، ثم تحولت إلى شهور وسنوات، لكن الغياب ظل غامضًا ومؤلمًا، لا أحد يعلم أين اختفت، ولا إن كانت على قيد الحياة. عاشت أسرتها وجيرانها على وقع الأسئلة التي لم تجد إجابة، بينما تحول اسمها إلى رمز لمعاناة الصامتين تحت قبضة الظلم.

عادت إلى عائلتها ذكرى امرأة خطفها الزمن، لكنها لم تعد كما كانت.. تحوّلت إلى رمز للمعاناة والصمود في وجه القهر، جسدها المنهك وروحها الصامتة شاهدان على عقود من الظلم والاضطهاد

41 عامًا في الظلام

على مدار 41 عامًا، عاشت الدكتورة في ظلمات المعتقلات، وتحديدًا في سجن صيدنايا، الذي اشتهر بكونه واحدًا من أكثر المعتقلات قسوةً في العالم. لم يعرف أحد شيئًا عن مصيرها، بينما كانت حياتها تنهار بعيدًا عن أعين من أحبوها.

في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024، وبينما كانت سوريا تشهد تحولات سياسية كبيرة، اقتحم الثوار سجن صيدنايا، وفتحوا أبوابه ليكتشفوا داخله قصصًا تفوق الخيال قسوة. وبين الزنازين المظلمة والجدران التي شهدت عقودًا من الألم، وجدوا امرأة عجوزًا بالكاد تتحدث أو تتحرك.. كانت نحيلة الجسم، هزيلة، بالكاد تستطيع الوقوف، لكنها لا تزال تحمل ملامح من كانت يومًا رمزًا للحكمة والعطف.

صدمة العودة

كانت المفاجأة مدوية بعودتها، فتلك المرأة العجوز كانت الدكتورة الصيدلانية، التي اعتُقلت وتم إخفاؤها في عام 1983.

عادت إلى عائلتها ذكرى امرأة خطفها الزمن، لكنها لم تعد كما كانت.. تحوّلت إلى رمز للمعاناة والصمود في وجه القهر، جسدها المنهك وروحها الصامتة شاهدان على عقود من الظلم والاضطهاد.

قصة الدكتورة الدمشقية ليست مجرد حادثة فردية، بل شهادة على حقبة مظلمة في تاريخ سوريا. بين اختفائها القسري في عام 1983 وإطلاق سراحها في عام 2024، رسمت ملامح مأساة إنسانية، تعكس معاناة جيل بأكمله عاش تحت وطأة الخوف والبطش

بين الماضي والحاضر

بلغ عمر الدكتورة 85 عامًا عند تحريرها من المعتقل، لكنها- وبحسب كلام ابنها وأخيها- لم تعد تلك المرأة ذات الحيوية التي عرفها الجيران.

لم تكن عودتها مجرد حدث عائلي، بل قصة إنسانية عميقة، تُظهر كيف يمكن أن تتحول كلمة أو نصيحة إلى مأساة إنسانية.

شاهدة على زمن الظلم

قصة الدكتورة الدمشقية ليست مجرد حادثة فردية، بل شهادة على حقبة مظلمة في تاريخ سوريا. بين اختفائها القسري في عام 1983 وإطلاق سراحها في عام 2024، رسمت ملامح مأساة إنسانية، تعكس معاناة جيل بأكمله عاش تحت وطأة الخوف والبطش.

إعلان

عادت الدكتورة اليوم، لكنها ليست المرأة نفسها التي عرفها الجميع قبل 41 عامًا.. أصبحت رمزًا للصمت الذي يرافق الظلم، وعبرة لمن عايش تلك الحقبة.

حكايتها درس بليغ في قيمة الكلمة وأثرها، وفي الثمن الباهظ الذي قد يدفعه المرء مقابل كلمة خرجت من القلب، لكنها وصلت إلى الأذن الخطأ.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان