في مشهد يلخص ما يخالج مشاعر السوريين، ويعبر عن مكنون رفضهم الدفين لتعاطي الأمم المتحدة والمجتمع الدولي مع مأساتهم، وهي مأساة مركبة بين قتل وتعذيب، واعتقال واغتصاب، وعاهات مستدامة جسدية أو نفسية، وتهجير وفقد للأبناء والأزواج والأحباب والأقارب، وقطع للأرزاق، وهدم للبيوت، وتخريب للبنية التحتية، مآسٍ بعضها فوق بعض ظلمات، لخصت السيدة السورية التي ذهبت إلى سجن صيدنايا -كعادتها منذ تحرير سوريا- للبحث عن أخيها وابنَي عمها الذين فقدتهم، لعله يأتيها من الوثائق التي وُجدت في السجن قبس، أو تجد في السجن هدى لمصيرهم.
حوَّل المبعوثون الأمميون الأزمة السورية من أزمة سياسية إلى اختصارها في الملفات الإنسانية، متناسين المادة الأولى من ميثاق الأمم المتحدة التي تنص على حق الشعوب في تقرير المصير
حظ المبعوث الأممي الخاص إلى سوريا، غير بيدرسون، أن يلقى هذه السيدة المكلومة- وهي ليست الوحيدة-، فسمع منها ما لن يسمعه من السياسيين الذين اعتاد أن يلقاهم، ويلقاهم من سبقوه في الأمم المتحدة، في السنوات الثلاث عشرة الماضية.
فأصحاب رابطات العنق الأنيقة، والذين عرفوا شكل الدولار، وعرفوا بعده الإقامة في الفنادق ذات النجوم الخمس في أعرق بلاد الأناقة والرفاهية في أوروبا، لا يستطيعون أن يعبّروا كما عبرت سيدة صيدنايا عما يشعر به الشعب السوري أمام الخذلان الذي رأوه من المجتمع الدولي، ومنظماته التي قامت لضمان ورعاية الأمن والسلم الدوليين، وصمتهم المريع أمام البراميل المتفجرة التي تسقط على رؤوس العزل، والسياط التي تسقط على ظهور المعتقلين.
منذ اندلاع الثورة السورية وعسكرتها كرهًا بإدارة النظام المخلوع، ورغبته في جر الشعب للسلاح حتى يبرر القمع والقتل، صار المجتمع الدولي ومنظماته المؤتمرة بأوامر أميركا، والمعطلة بفيتو روسيا، في تبادل أدوار مفهوم، عاجزين عن كف القتل والتنكيل الواقع على الشعب الذي طالب بالتغيير، متذرعين بتعقيد الأزمة والتوازنات الدولية، لكن مجمل الأداء الأممي والدولي تجاه الأزمة السورية لم يكن باهتًا، بل كان قاتمًا سلبيًا، تراوح ما بين المماطلة وعدم اتخاذ قرارات حاسمة، وبين الرغبة في إطالة أمد الحرب لإنهاك دولة كبيرة لمصلحة جارة الشؤم إسرائيل.
حوَّل المبعوثون الأمميون الأزمة السورية من أزمة سياسية إلى اختصارها في الملفات الإنسانية، متناسين المادة الأولى من ميثاق الأمم المتحدة التي تنص على حق الشعوب في تقرير المصير، ومع ذلك كان الفشل الذريع في فرض آليات ضغط جدية على النظام المخلوع وداعميه الروس والإيرانيين لوقف المجازر، فيما لو اقتصرنا الأزمة في الملف الإنساني، ليتحول الملف الإنساني، ويقلص إلى ملف إغاثي، وتوجه جهود الأمم المتحدة و"دول أصدقاء سوريا" إلى الحل الإغاثي، وحتى هذا لم يفلح مع تعنت الهارب بشار الأسد من ناحية، وإدراك المنظمة الدولية وتجار الكوارث من الجمعيات المحلية لحقيقة ما يحتاجه الشعب، ونضرب في ذلك مثال داريا المحاصرة، التي جوعها النظام سنة 2016، وإذ بالمنظمة الدولية بدلًا من أن ترسل الطعام لمن بقي على قيد الحياة، ومن لم يموتوا جوعًا، ترسل لهم أدوات نظافة شخصية.
تظهر طبقة جديدة من الثوار، أو من يتكلمون باسم الثوار من أصحاب الياقات البيض، وتبدأ عملية تبريد الثورة، ليأتي خلفه دي مستورا ليسير على نهجه، ويطلق مبادرات خفض التصعيد في جولات جنيف التي أطلقها سلفه، ليسلِّم الملف برمته طواعية وبأوامر أميركية إلى روسيا
منذ أن عُهد لكوفي عنان في فبراير/ شباط 2012 مهمة متابعة الملف، وأصبح مبعوث الأمين العام إلى سوريا، كان الأداء ضبابيًا، فأطلق خطة من ست نقاط لوقف العنف، منها وقف إطلاق النار وإيصال المساعدات الإنسانية، لكن الخطة فشلت بسبب عدم وجود ضمانات دولية وإرادة تصحبها، كما حدث في البوسنة، وفي ليبيا.
ليأتي بعده الأخضر الإبراهيمي منذ 2012 وحتى 2014 وكل مساعيه تنصب على جمع أطراف النزاع، ونجح الرجل في إطلاق مؤتمر جنيف، لتظهر طبقة جديدة من الثوار، أو من يتكلمون باسم الثوار من أصحاب الياقات البيض، وتبدأ عملية تبريد الثورة، ليأتي خلفه دي مستورا ليسير على نهجه، ويطلق مبادرات خفض التصعيد في جولات جنيف التي أطلقها سلفه، ليسلِّم الملف برمته طواعية وبأوامر أميركية إلى روسيا، لتصبح الخصم والحكم!
ثم يأتي بيدرسون ليقول كلمته، ويدشن لجنة دستورية، ويدخل الجميع في معضلتين يحير فيهما الحكماء، الأولى تعريف ما جرى ويجري منذ اندلاع الثورة، ومن ثم تعريف الطرفين لأنفسهما، بشار يعرف نفسه جيدًا.. هو حاكم مستبد ورث الحكم، ويدافع عن إرث عائلته، لكن الأزمة في الطرف الآخر، أهُم ثوار أم معارضون؟
فلو كانوا ثوارًا فماذا يعني أن ينخرطوا في دستور بإشراف أممي ومشاركة النظام الذي ثاروا لتغييره؟ ولو كانوا معارضين، فلماذا يتمسك هادي البحرة حتى الآن بالقرار 2254 رغم سقوط بشار الأسد وهروبه؟!
لا يمكن إغفال النصائح التي لا تتوقف منذ تحرير دمشق من كل ناصح، وأنا منهم، وكتبت في ذلك مقالًا في يوم سقوط الأسد بعنوان "ماذا بعد فرحة سقوط بشار؟!"، ومن هذه النصائح للثوار، "لا تتركوا أحدًا يقفز على الثورة"، في إشارة من أصحاب هذه النصيحة تقول لا تجعلوا الجولاني يختطف الثورة، وكأن الجولاني لم يضحِّ، وكأن الجولاني لم يوحّد الصفوف، ولم يقُد المشتتين!.
أصحاب المكايد وقادة الثورات المضادة على الربيع العربي يتربصون ويجتمعون، ويتلونون، فهل أنتم – يا ثوار – مستيقظون، وتصرخون كما صرخت سيدة صيدنايا؟
ومع تحفظي ومخاوفي فإن علينا جميعًا أن نحترم إرادة الشعب السوري واختياراته، ولأن هذه النصيحة تحمل وجهين، أحدهما مخلص يريد لسوريا أن تمر من هذا النفق بسلام، من أجل بناء الجمهورية الجديدة المؤثرة صاحبة المكانة التاريخية، والوجه الآخر خبيث، يهدف إلى دق الإسفين في مفاصل الدولة الوليدة، لاستبعاد تيار شعبي عام صاحب أيديولوجيا تقترب أو تبتعد عن أيديولوجيا الجولاني، لكنها في إطاراته، ولا تختلف إلا في التفاصيل، وتحلّ بالمرونة والتقريب، لصالح تيار مقرب من الغرب وينتهج فكره.
صرخت سيدة صيدنايا في وجه بيدرسون: "بعد ماذا أتيتم؟ لا نريدكم بعد الآن"، قبل أن تلقي بحذائها على سيارة الأمم المتحدة، في حركة لها رمزيتها، وصرخة لها دلالتها، ففي ظل حالة التسامح التي حملها الثوار مع تحرير دمشق، والتي لا أرى لها محلًا في كثير من المواضع، ومع ثلاثة عشر عامًا من القتل والقهر والحرب والسياسة، والدبلوماسية، وإدارة المدن المحررة وتنظيم شؤون الناس في تلك المدن.. هل نضجت الثورة بما يكفي لكيلا تخضع؟
أصحاب المكايد وقادة الثورات المضادة على الربيع العربي يتربصون ويجتمعون، ويتلونون، فهل أنتم – يا ثوار- مستيقظون، وتصرخون كما صرخت سيدة صيدنايا؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.