كثيرون هم الحجاج إلى دمشق اليوم؛ من هؤلاء وزراء خارجية دول كبرى وإقليمية، ناهيك عن الصحفيين والباحثين وغيرهم. الكل يدعي أنه يحاول أن يفهم الثورة السورية ومآلاتها. وبالنسبة للمسؤولين الغربيين منهم، فحريصون أيضًا على إيصال رسائلهم التقليدية: حقوق الإنسان، الأقليات، الديمقراطية، الإرهاب.. إلخ.
أكاد أجزم بأن هؤلاء – خاصة السياسيين والصحفيين منهم – نظراتهم وتوقعاتهم تشاؤمية في المجمل، ولربما سبب ذلك يعود إلى أن التغيير كان سوريًا، ولم يكن على ظهر دبابة أميركية أو بريطانية، أو أي دولة أخرى. فمجمل التحليلات الغربية ترى أنه ما لم يتدخل "المجتمع الدولي" ويضغط باتجاه معين، فإن السوريين ليسوا قادرين على الاتفاق لإصلاح شؤونهم.
بعيدًا عن مصالح القوى الدولية المؤثرة، والتحليلات التي يطلقها سكان الأبراج العاجية ومنظرو الكراسي ممن ليس لهم أدنى معرفة بحقيقة وواقع الحياة السورية، وإن وجدت نظرة ميدانية من بعض هؤلاء، فهي عادة ما تكون بعدسات ذات خلفية استعمارية، يظل السؤال المطروح، هو: كيف ستتجاوز قيادة الثورة السورية كل التحديات التي لا شك أنها ضخمة ومعقدة؛ بسبب الإرث الذي تركه نظام نَدُر مثيله في الاستبداد والقمع وتجفيف معالم الحياة المدنية؟
من أكبر التحديات التي تواجه سوريا الجديدة علاقاتها الإقليمية والدولية؛ حيث إنها كانت في السابق تصطف وفق ترتيبات معينة مع حليفتيها إيران وروسيا، واللتان تعتبران من أكبر الخاسرين بسقوط نظام الأسد
تحديات قد تبدو مستحيلة
كل الدراسات تشير إلى أن الحروب الأهلية أكثر دمارًا من غيرها من الحروب، وذلك بسبب ما تؤدي إليه من النزوح السكاني الضخم، وارتفاع عدد الضحايا، وملايين المهاجرين. فبالنسبة لسوريا تذكر الإحصائيات أن نصف مليون شخص قد قتلوا بسبب الحرب، وأن من نتائج الحرب الأهلية الممتدة من 2011 إلى 2024، هو أكبر نزوح سكاني في العقود الأخيرة، حيث اضطر أكثر من نصف سكان البلد إلى هجر منازلهم وأصبحوا لاجئين، إما داخليًا أو خارج سوريا، وأن صادرات سوريا تقلصت بنسبة 92٪ حيث انخفض حجم التصدير من 8.7 مليارات دولار في 2010 إلى 0.7 مليار دولار في 2018.
وفي دراسة علمية أجراها الباحثان؛ ألكسندر كلسلجفي وروك سبروك نشرتها مجلة Empirical Economics في 2023، عرض الباحثان خمسة آثار للحرب في سوريا، وهي:
انخفاض الناتج المحلي الإجمالي.
- خسائر رأس المال البشري.
- العجز المالي وتكدس النفقات العامة في مجالات مثل: التعليم والصحة.
- انخفاض النشاط الاقتصادي؛ بسبب انخفاض مخزون رأس المال.
- تأثر الدول المجاورة؛ بسبب تدفق اللاجئين.
وخلصت الدراسة إلى أنه بالإضافة لحجم النزوح السكاني غير المسبوق في التاريخ الحديث، إذ هجر ما يقرب من 13 مليون شخص مساكنهم بسبب الحرب، فإن 80٪ من سكان سوريا اليوم يعيشون تحت خط الفقر، مقارنة بـ 12.4٪ في عام 2007. وأنه، حتى لو تم إعادة إصلاح وإعمار ما تهدم من المساكن والبنية التحتية، فلم يعد ذلك كافيًا. والأخطر من ذلك كله تشظي القوى الفاعلة في المجتمع.
لا شك أن من أكبر التحديات التي تواجه سوريا الجديدة هي علاقاتها الإقليمية والدولية، فإيران وروسيا، حليفتا النظام السابق، تعتبران من أكبر الخاسرين بسقوط الأسد، ولديهما من الأدوات ما قد يجعل مهمة النظام الجديد معقدة للغاية.
ومن تلك الأدوات فلول النظام المنحل، وفسيفساء الأقليات التي إذا لم يتم التعامل معها وتحييدها بأسرع وقت أو استيعابها فستشكل مدخلًا لعدم الاستقرار. هذا، ناهيك عن الفاعل الإقليمي الأكبر إسرائيل، ومن ورائها الولايات المتحدة، التي لن ترضى بسوريا مستقرة وموحدة وقوية، وقد بادرت إسرائيل وبمباركة أميركا بتدمير 80٪ من قدرات الجيش السوري خلال الأيام الثلاثة الأولى لانتصار الثورة.
وفي ظل هذا التغير الضخم الذي أحدثته الثورة السورية بات الكل ينظر إلى الدور الذي ستلعبه تركيا بشكل أساسي، والتي تعتبر الفائز الأكبر بين القوى الإقليمية والدولية، ثم دول الخليج.
حدد الباحثون أن توفر الموارد الطبيعية في البلد، مثل البترول والذهب، كثيرا ما يكون سببا في اختلاف رفقاء السلاح والعودة إلى الصراع، في محاولة لكل طرف بالاستحواذ على أكبر قدر من تلك الموارد
سوابق غير مشجعة
بالنظر لمستقبل سوريا، فتجارب كثير من الدول التي مرت بحروب أهلية وثورات مسلحة ليست مشجعة. يشير كثير من الباحثين إلى تجارب بلدان مثل؛ ليبيا، والسودان، وجنوب السودان، وحتى أوغندا بعد "عيدي أمين".
فالحلفاء الذين جمعهم في تلك البلاد هدف مشترك هو إزالة النظام القائم، سرعان ما يختلفون عند تشكيل السلطة الجديدة، وكثيرًا ما يؤدي ذلك إلى إعادة إنتاج الحرب الأهلية مجددًا واستمرار دوامة الصراع.
دراسات عدة لمثل هذه الحالات أشارت إلى أن من أسباب الانتكاسات التي تحصل بعد نجاح الثوار في خلع النظام القائم والعودة للصراع، عدمَ قدرة المنظومة الجديدة على معالجة الجذور الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي أدت إلى الحرب ابتداء.
وقد حدد الباحثون أن توفر الموارد الطبيعية في البلد مثل؛ البترول والذهب، كثيرًا ما يكون سببًا في اختلاف رفقاء السلاح والعودة للصراع؛ في محاولة لكل طرف بالاستحواذ على أكبر قدر من تلك الموارد.
كما أن ضعف المؤسسات وعدم تمثيلها للفئات والقوى الرئيسية في المجتمع يمنحان تلك القوى "شرعية" المطالبة بتمثيل مناسب في المؤسسات والسلطة، والذي كثيرًا ما يؤدي لإعادة إنتاج الصراع، خاصة عندما تكون تلك القوى ممثلة لفئات عرقية محددة، وربما أقلية في المجتمع.
في المسار السياسي، يرى الخبراء بأن العملية السياسية لا بد أن تفرز شرعية لمن هم في السلطة، حيث تكون هذه الشرعية مكتسبة إما بسبب التوافق بين رفاق السلاح الرئيسيين، أو من خلال مجلس تمثيلي يضم ممثلين عن فئات المجتمع الرئيسية
ما السبيل إلى تفادي حرب أهلية جديدة في سوريا؟
لا شك أن حكام سوريا الجدد ليسوا في وضع سهل، رغم ما أبدوه من مرونة، ورغم الرسائل المطمئنة التي تصدر عنهم. فكل المحذورات التي كشفتها الدراسات عن الحالات التي انتكست فيها الثورة موجودة في سوريا بزخم كبير. أضف إلى ذلك أن موقع سوريا الجيوسياسي، يعطي الذرائع لتدخلات خارجية كبيرة.
ومع هذا يجب أن نسأل: ما السبيل لتفادي انتكاسة حلاوة النصر التي استحقها السوريون بجدارة وتضحيات كبرى، والعودة إلى صراعات أكثر دموية وربما تقسيم للبلد؟ فبقدر الانتكاسات التي منيت بها دول عدة والمشار إليها سابقًا، إلا أن هناك بعض النجاحات في بلدان أخرى يمكن الاستفادة منها.
تُولي الدراسات – والتي هي مبنية على منهجية ما يسمى "بناء السلام الليبرالي" – أهمية للتركيز على بناء المسارين؛ السياسي والأمني أولًا، يليهما المسار الاقتصادي الذي عادة ما يكون طويل الأمد.
ولهذه المنهجية نقادها، حيث إن أي نجاح في المسارين؛ السياسي والأمني، يعتمد في نهاية الأمر على النجاح في المسار الاقتصادي. وبما أن مثل هذه الدول تعتمد بشكل أساسي على المجتمع الدولي في نجاح الانتقال من حالة الحرب إلى الاستقرار، فقد أثبت المجتمع الدولي في أماكن عدة قصر نفَسه في الصمود مع تلك الدول، وعدم وفائه بالالتزامات المعلنة، كي تتعافى اقتصاديًا وتعبر إلى بر الأمان.
الناظر إلى الحالة السورية يجد فيها تميزًا عن كثير من الصراعات التي كان التحول فيها ناتجًا عن تدخل طرف دولي آخر، أميركا في أفغانستان والعراق، الأمم المتحدة في تيمور الشرقية، بريطانيا في سيراليون من الأمثلة الحديثة.
فالثورة السورية كانت سورية خالصة، ولم يدخل الثوار دمشق على ظهر دبابة أجنبية، ثم إن للحكام الجدد تجربة مهمة وقدرًا من الخبرة والنجاح في إدارة منطقة ليست بالصغيرة ولسنوات، وهي محافظة إدلب والتي بلغ تعداد سكانها أثناء الحرب 4 ملايين نسمة.
ففي المسار السياسي، يرى الخبراء أنّ العملية السياسية لا بدّ أن تفرز شرعية لمن هم في السلطة، إما على أساس التوافق بين رفاق السلاح الرئيسيين، أو عبر مجلس تمثيلي يضم ممثلين عن فئات المجتمع الرئيسية، والأهم من ذلك أن يشارك في السلطة كل القوى المؤثرة حتى لا تشعر أي منها بالحرمان ويكون ذلك سببًا للتوجه نحو حمل السلاح مجددًا.
كما يجب أن تفضي المرحلة الانتقالية، من خلال عملية متفق عليها، إلى عقد اجتماعي جديد [دستور] يعالج كل مسببات الحرمان التي أدت إلى نشوب الحرب. ومن المهم ألا تطول هذه الفترة أكثر من اللازم، حتى تفضي إلى عملية سياسية مستقرة.
من الأمثلة التي يمكن الإشارة إليها تونس حيث أخذت المرحلة الانتقالية قرابة ثلاث سنوات، رغم أن الدولة كانت شبه مستقرة، وكان المجلس التأسيسي منتخبًا. كذلك بالنسبة لمصر بعد ثورة 2011، حيث استغرقت كتابة الدستور ثلاث سنوات أيضًا.
هذا بالنسبة لبلدان كان التحول فيها سلميًا، أما سوريا حيث تنعدم المؤسسات المعنية بترتيب انتخابات نزيهة، وحيث أكثرُ من نصف السكان نازحون، فما أعلنه قائد العمليات العسكرية الموحدة من أن إجراء أول انتخابات قد يحصل في غضون ثلاث سنوات يبدو متفائلًا، إذ ليس هناك كما يبدو البنية التحتية اللازمة لتأمين انتخابات حرة ونزيهة يحترم نتائجها كل الأطراف.
المسار الاقتصادي يعد الأصعب على الإطلاق، وذلك لعدة أسباب؛ منها أن توقعات الناس بعد النجاح في تغيير النظام تكون عالية جدا، وكأن عصا سحرية ما ستفعل فعلها، ويتمكن الجميع من العيش الرغيد
وأما المسار الأمني، فيرتكز أساسًا على ثلاثة محاور، وهي:
- تجريد المحاربين من السلاح.
- تسريح أولئك المقاتلين من تشكيلاتهم العسكرية المستقلة.
- إعادة إدماجهم في المجتمع.
وقد شاهدنا تصريحات كثيرة لقيادة النظام الجديد في سوريا عن ضرورة جمع السلاح غير المقنن، ودمج فصائل الثورة في المؤسسات الأمنية الجديدة، وتسوية أوضاع أفراد المؤسسات الأمنية القديمة. فهل ستنجح هذه العملية وتفضي إلى أن يكون السلاح حكرًا على المؤسسات الأمنية الرسمية الجديدة؟
والسؤال الأهم: كيف ستتم إعادة إدماج من حملوا السلاح سابقًا في المجتمع، وتوفير فرص العمل لهم، بما يضمن عدم عودتهم إلى تشكيلات مسلحة جديدة؟ خاصة إذا ما تعثرت العملية السياسية، وأدت إلى خلافات تطعن في شرعية مؤسسات الحكم الجديدة. هذا على افتراض أن المؤسسات الأمنية الجديدة ستكون مبنية على أسس احترافية تتوفر آلية للمحاسبة والرقابة عليها، حتى تكون خادمة للمجتمع لا متسلطة عليه.
تعتبر عملية إعادة إدماج من حملوا السلاح سابقًا من أخطر وأصعب العمليات، فهي تقتضي السرعة في تنفيذها، كما أنها ذات تكلفة عالية في وقت تعتبر مداخيل النظام الجديد شحيحة، وقد تحتاج سوريا لمساعدة أصدقائها في هذه العملية؛ لتجنب تجارب الفشل التي منيت بها دول مثل؛ جنوب السودان، وموزمبيق، وأنغولا، وكولومبيا، وليبيريا.
من أهم الإجراءات التي كثيرًا ما تتعثر وتكون سببًا في انتكاسة الثورة والعودة إلى الصراع مجددًا، هي العدالة الانتقالية، وأشهر أمثلتها الناجحة كان في جنوب أفريقيا بعد إسقاط النظام العنصري فيها، حيث شكلت لجان "الحقيقة والمصالحة".
وقد اتبع نفس النموذج في سيراليون، ثم في محاكم "جاكاكا" في رواندا، واستطاعت هذه الممارسات أن تعالج معظم المظالم الناتجة عن الجرائم المرتكبة من قبل الأفراد في النظام السابق.
ونظرًا لجرائم النظام السوري المنحل خلال خمسة عقود، وبشاعة ممارساته التي أدت لقتل وإخفاء مئات الآلاف من الناس، فأي إخفاق في هذه العملية قد يؤدي إلى اضطرار بعض الأطراف المعنية لمباشرة الانتقام، ومن ثم فتح باب لانتكاسة ودوامة من الصراع الجديد.
وتشمل العدالة الانتقالية أيضًا فتح باب الحوار والتسامح كمسار إضافي لبناء الثقة والترابط بين فئات المجتمع المنقسمة، وقد يكون هناك جهد أيضًا في قدر من العفو العام لفئات من أفراد النظام السابق، مع مراعاة صعوبة تقبل ذلك من قبل الفئات المظلومة.
المسار الاقتصادي
ومع صعوبة المسارات السياسية والأمنية ومسار العدالة الانتقالية، يظل المسار الاقتصادي هو الأصعب على الإطلاق، وذلك لعدة أسباب. منها، أن توقعات الناس بعد النجاح في تغيير النظام تكون عالية جدًا، وكأن عصا سحرية ما ستفعل فعلها ويتمكن الجميع من العيش الرغيد، وكلما تأخر الانتعاش الاقتصادي واستمر عناء أفراد المجتمع، وخاصة الشباب في الحصول على فرص عمل، تتحول فرحة النصر إلى سخط ومظاهرات واحتقان، وهذا قد يؤدي بدوره إلى شعور فئات حساسة بالتهميش قد يكون من ضمنها حَمَلة السلاح سابقًا، وربما يصحب ذلك شعور بأن الحكام الجدد يسلكون مسلك من سبقهم في الفساد.
لعل أهم ما لدى سوريا الثورة من رصيد يكمن في نوعية القيادة التي أفرزتها، حيث استطاعت في هذه الأيام الأولى كسب تقدير معظم القوى المؤثرة داخليا وخارجيا، بسبب مرونتها واعتدالها وتركيزها على رسائل الطمأنة
فالإصلاح الاقتصادي بطبيعته طويل المدى ويعتمد أساسًا على قدرة الحكومة على جذب الاستثمار اللازم لتهيئة البنية التحتية، فيما ينشط القطاع الخاص فيوفر فرص عمل، ولا سيما لحَمَلة السلاح السابقين. ولن يتأتى هذا بالنسبة لسوريا إلا إذا نجحت الحكومة الجديدة في أمرين مهمين:
- رفع العقوبات الدولية المفروضة حتى تتمكن من استيراد المواد اللازمة، والتعامل مع النظام المالي الدولي.
- جلب الاستثمار اللازم، لإعادة تأهيل قطاع الطاقة والمصافي؛ لتوفير الوقود اللازم، واستئناف التصدير.
ومن المهم أيضًا العمل على الحصول على أكبر قدر من المساعدات الإنسانية والاقتصادية التي تعين وتسرع عملية التعافي الاقتصادي، ابتداء بإعادة تأهيل 20٪ من المساكن التي دمرت أثناء الحرب؛ لتمكين النازحين من العودة إلى مدنهم وقراهم.
قد تبدو مهامَّ شبه مستحيلة، لكنها في الحقيقة يمكن التغلب عليها بقدر من الحكمة وحسن ترتيب أولويات المرحلة الانتقالية التي بدأت.
ولعل أهم ما لدى سوريا الثورة من رصيد يكمن في ثلاثة عوامل:
- أولًا، نوعية القيادة التي أفرزتها، حيث استطاعت في هذه الأيام الأولى كسب تقدير معظم القوى المؤثرة داخليًا وخارجيًا؛ بسبب مرونتها واعتدالها وتركيزها على رسائل الطمأنة، وأن سوريا لكل السوريين دون إقصاء أو تهميش، ثم أنها كانت واقعية بعدم رفع مستوى التوقعات من أن كل شيء سيتغير إلى الأفضل بسرعة، وأن الإصلاح المنشود سيحتاج إلى وقت ليس بالقصير.
- أما العامل الثاني، الذي لا يقل أهمية، هو وجود الظهير القوي المساند، وهي تركيا، التي بذلت وتبذل الكثير لمساعدة شعب وثوار سوريا.
- وثالثًا، يجب ألا ننسى أن شعب سوريا يتميز عن كل شعوب المنطقة بجديته وجلده وقدرته على الإنتاج، وإذا ما أمن واستقر فلديه من الإبداع ما ينهض بالبلد.
بيدَ أنه يبقى من المهم الإشارة لنوع التدخلات الإقليمية والدولية في الشأن السوري، ومدى استطاعة القيادة الجديدة طمأنة الدول المتوجسة من الثورة، وكسب ما يكفي من الدعم من الدول الصديقة والقادرة على دعم المرحلة الانتقالية الحرجة حتى تعبر البلد إلى بر الأمان.
وفي هذا الصدد تتوفر حتى اللحظة مؤشرات مشجعة حيث بادرت كل من تركيا، وقطر، والمملكة العربية السعودية إلى تشغيل جسور جوية وبرية من المساعدات العاجلة، وقامت العديد من الدول المهمة بإعادة فتح سفاراتها، وزار عدد من وزراء خارجية دول مهمة دمشق؛ لفتح قناة حوار مع القيادة الجديدة.
يجب الإشارة إلى ما حاولت تونس الثورة تفاديه، وهو السماح ببروز حزب مركزي قوي، والذي أدى لتشظي البرلمان وعجزه عن توفير حكومة مستقرة. فيجب أن يأخذ ثوار سوريا هذا بعين الاعتبار، وتجنبه ما أمكن
خطوات لابد منها
أهم ما يحتاجه بلد في وضع سوريا في هذه المرحلة، هو ما يمكن تسميته بـ "القوة الرافعة والضابطة"، والتي إن توفرت ستمنح المجتمع السوري بقواه وفئاته المختلفة الوقت والمساحة الكافيين لإنضاج العقد الاجتماعي الجديد، والسير بسوريا نحو الاستقرار والرفاه.
فمن أين ستأتي هذه القوة الرافعة؟
في دول كأفغانستان والعراق حاولت الولايات المتحدة توفير هذه القوة، ولكنها فشلت فشلًا ذريعًا، وفي البوسنة والهرسك وكوسوفو، لا يزال حلف الناتو هو الضامن ولا يستطيع الانسحاب لهشاشة الوضع في البلدين.
ولعل من أنجح البلدان التي مرت بصراع يشبه الثورة السورية، دولتَي رواندا، وأفغانستان بعد الانسحاب الأميركي منها. حيث قامت الجبهة القومية الرواندية بقيادة بول كاغامي بالسيطرة وتأمين عملية الانتقال والتي جعلت من رواندا خلال أعوامها الثلاثين الماضية واحة استقرار ونمو اقتصادي متميز في أفريقيا كلها.
كذلك في أفغانستان – رغم أن الوقت لا يزال مبكرًا – استطاعت حركة طالبان توفير الأمن على الأقل حتى هذه اللحظة، وهو ما يمكن البناء عليه لمستقبل واعد، إذا ما أحسنت الحركة إدارة بقية الملفات الحساسة.
بالنسبة لسوريا بدأنا نسمع من يؤكد على أهمية التعددية وإشراك الجميع في السلطة من خلال عملية ديمقراطية تبدأ في أقرب وقت، وغير ذلك من المطالبات، وهذا من حق كل سوري أن يطرحه، إلا أن الحقيقة المُرة هي أن شيئًا من ذلك لن يتحقق إذا لم تكن "هيئة تحرير الشام"، وهي القوة الرئيسية كما يبدو، قادرة على تكوين "قوة صلبة رافعة" تكون محور الانطلاق في هذه المرحلة الحساسة، وذلك أولًا من خلال صهر كل القوى الثورية المسلحة في إطار منظومة أمنية "أمينة" تحتكر السلاح وتردع من تسول له نفسه زعزعة المجتمع.
ولعل القوى المعنية هي هيئة تحرير الشام بدرجة أولى، ثم الجيش السوري الحر، وجيش الإسلام في ريف دمشق، وقسد في المناطق الكردية، وثوار جنوب سوريا.
ثم إنه من المهم جدًا وجود كيان سياسي قوي يكون صوت الثورة، وهو إما أن يشكل من ائتلاف حزبي قوي، أو يتمخض حزب رئيسي يوفر غطاء سياسيًا للعملية الانتقالية.
وهنا يجب الإشارة إلى ما حاولت تونس الثورة تفاديه – وهو السماح ببروز حزب مركزي قوي – والذي أدى لتشظي البرلمان وعجزه عن توفير حكومة مستقرة. فيجب أن يأخذ ثوار سوريا هذا بعين الاعتبار وتجنبه ما أمكن.
إذا ما استطاع الثوار توفير "القوة الرافعة والضابطة" والضامنة لضبط الأمن، وبأسرع وقت ممكن، ثم إشراك قوى المجتمع على مستوى المحافظات في عملية إعادة الإعمار والتنمية، فإن ذلك سيسمح بإنضاج عملية سياسية، وعقد اجتماعي يلم شمل السوريين، وينطلق بسوريا نحو مستقبل أفضل تستحقه
أخيرًا، بالنسبة لمعالجة الوضع التنموي وإعادة الإعمار – وهو جزء من المسار الاقتصادي ومن أخطر الملفات في هذه المرحلة- يجب تبني إدارة مرنة تستوعب القطاعات الرئيسية المنظمة في المجتمع وألا تنفرد به الحكومة الانتقالية، وذلك عبر تشكيل لجان تنمية وإعادة إعمار في كل محافظة، تتشكل من القطاع الحكومي والقطاع الخاص، ومنظمات المجتمع المدني في المحافظة.
هذا النوع من التنظيم سيعطي فرصة للمساهمة الحقيقية لسكان كل منطقة في تحديد أولويات المنطقة، والمشاركة في اتخاذ القرارات في وقت مبكر، مما يوفر مجالًا للمشاركة الحقيقية في هذه الأيام المبكرة من عمر الثورة، ويعطي فرصة للمسار السياسي حتى ينضج.
فإذا ما استطاع الثوار توفير "القوة الرافعة والضابطة" والضامنة لضبط الأمن في أسرع وقت ممكن، ثم إشراك قوى المجتمع على مستوى المحافظات في عملية إعادة الإعمار والتنمية فإن ذلك سيسمح بإنضاج عملية سياسية وعقد اجتماعي يلم شمل السوريين وينطلق بسوريا نحو مستقبل أفضل تستحقه، ويكون وفاء لدماء الشهداء التي سكبت غزيرة من أجل هذه اللحظة.
أما ما يطالب به "المجتمع الدولي" – الغربي بالأصح – من عملية ديمقراطية مبكرة على مقاس وستمنستر مثلًا، فذلك لا يستطيعه إلا من كان تحت عباءة الناتو أو الاتحاد الأوروبي، أما في مجتمعات ما بعد الحرب الشبيهة بسوريا فلن تقود هذه العملية، إذا ما استُعجلت، إلا إلى صراع داخلي وانتكاسة مأساوية قد تكون أكثر كارثية مما سبق.
فالسكينة السكينة، والثبات الثبات يا ثوار سوريا.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.