اليوم، يبدو أننا بحاجة إلى أخصائيين نفسيين لعلاج حال "فرط السعادة"، التي لم يعتد عليها الشعب السوري!. تلك السعادة التي اجتاحت القلوب ليلة سقوط النظام المجرم، وما زالت مستمرة حتى هذه اللحظة، بل وربما سترافقنا لفترة طويلة قادمة.
إنها سعادة مفاجئة جاءت بعد عقود من الكآبة والخوف والانصياع، عقود من الرعب الذي كان يسكن النفوس، ويُصيب الأجساد بالرعشة لمجرد كلمة قد تُفهم خطأً، وتودي بصاحبها إلى أعماق الأرض.
اليوم، لا يكاد يوجد مواطن واحد داخل سوريا أو خارجها إلا ويستيقظ صباحًا ليطرح على نفسه السؤال الذي وحّد الجميع بعد سنوات من الانقسامات والخلافات: "عن جد سقط؟ أو أنا بحلم".. لتأتي الإجابة الحاسمة: "إي نعم، سقط".
ومن هنا تبدأ الاحتفالات المستمرة منذ الليالي الأولى، احتفالات يعمّها الدفء والأمل، حيث أصبح من الطبيعي أن يهنئك عابر سبيل لم يسبق له أن التقى بك من قبل بكلمة "مبروك". ما يلبث هذا اللقاء العابر أن يتحول إلى حديث مطول عن عهود الذل والهوان والخوف، التي عاشتها البلاد في ظل الطاغية.
جرّب الشعب السوري الموت بكل أشكاله أثناء محاولته الهروب من قبضة النظام. البحر ابتلع جثث الغارقين في رحلات الموت عبر بلم صغير، والموت كان أخف وقعًا من القهر والنسيان
كلمات لن تُسمع في الشارع السوري بعد اليوم
في فترة النظام السابق عاشت مصطلحات خاصة لا تُفهم إلا في سياق القاموس السوري المحمّل بالخوف والرعب. من هذه المصطلحات:
- "أنت بتعرف حالك مع مين عم تحكي؟": عبارة تحمل بين طياتها التهديد والوعيد، كان يستخدمها أصغر عنصر أمن أو مخابرات أو حتى موظف بسيط، ينتمي إلى النظام أو يحتمي بعائلته المتنفذة.
- "بيت خالتك": ولا تعني هنا زيارة ودّية لصلة الرحم، بل كانت كناية عن الرحلة إلى السجون السرية، التي أبدع النظام في تصميمها وإعدادها لتعذيب من يجرؤ على قول كلمة مخالفة.
- "الأخضر/النعنع": ليس المقصود هنا الخضار، بل الدولار!. كان المواطن السوري يبتكر أساليب لإخفائه أو تصريفه خشية الوقوع في أيدي الأجهزة الأمنية؛ لأن من يُضبط بحوزته "الأخضر" ينتهي به المطاف في "بيت خالته".
- "عفطوه": تعبير شعبي عن القبض على شخص، غالبًا ما يتبعه اختفاء قسري مجهول النهاية.
هذا المعجم الطويل الذي شكّل لغة الخوف في حياة السوريين لن يُسمع مجددًا. ولكنه سيظل شاهدًا على مرحلة مريرة من تاريخ البلاد، مرحلة تستحق أن تُوثّق للأجيال القادمة.
في المشهد السوريالي الذي يعيشه الشارع اليوم، تغيرت معالم البلاد. بائعة الورد استبدلت تجارتها وأصبحت تبيع أعلام الثورة، والسيارات تزيّنت بالأغاني الوطنية في طريقها إلى ساحات الاحتفال
كيكة البؤس
لقد جرّب الشعب السوري الموت بكل أشكاله أثناء محاولته الهروب من قبضة النظام. البحر ابتلع جثث الغارقين في رحلات الموت عبر بلم صغير، والموت كان أخف وقعًا من القهر والنسيان. عاش السوريون مرارة التشرد، وتناوبت الأطراف المختلفة على اقتسام "كيكة البؤس" التي تحوّلت إلى رمز لمعاناة الشعب.
حتى أولئك الذين كُتبت لهم النجاة من المعتقلات لم يعودوا كما كانوا؛ فالأم لم تعد تعرف ابنها الخارج من السجن بعد أن تغيّرت ملامحه تحت وطأة التعذيب، والابن لم يتعرف على أمه بعد أن فقد عقله واتزانه خلف القضبان. في المعتقلات رأينا الموت يتجسد، لكننا رأينا أيضًا ما هو أشد قسوة: الموت على قيد الحياة.
عاش السوريون لعقود تحت نظام قمعي يتحكم في حياتهم اليومية. بعد سقوط النظام، قد يجد البعض صعوبة في التكيف مع المسؤولية الجديدة التي تتطلب اتخاذ قرارات حرة
سوريا اليوم: مشاهد جديدة وأمل متجدد
في المشهد السوريالي الذي يعيشه الشارع اليوم، تغيرت معالم البلاد. بائعة الورد استبدلت تجارتها وأصبحت تبيع أعلام الثورة، والسيارات تزيّنت بالأغاني الوطنية في طريقها إلى ساحات الاحتفال.. لن نرى "بائعة الكبريت" تموت من البرد على قارعة الطريق، فقد أُشعلت النيران أخيرًا لإضاءة العتمة التي خيمت طويلًا.
وفي هذه اللحظة الانتقالية، يتفق الجميع على أهمية دور المجتمع المدني في مواجهة تحديات "تروما ما بعد السقوط".. محمد سليمان، الصحفي والناشط في المجتمع المدني السوري، يرى أن المهام الأساسية للمجتمع المدني تشمل:
- التوعية لعدم إعادة إنتاج النظام بشكل جديد.
- مراقبة سير العملية الانتقالية، وضمان الشفافية.
- تسليط الضوء على أي تجاوزات قانونية خلال المرحلة القادمة.
السعادة التي يعيشها السوريون اليوم ليست مجرد لحظة عابرة، بل هي بداية لمرحلة جديدة مليئة بالأمل والعمل لبناء مستقبل يليق بتضحيات هذا الشعب
التحديات النفسية التي تواجه السوريين بعد سقوط بشار الأسد
- صعوبة التكيف مع الحرية.. والتعامل مع شعور "الفراغ": عاش السوريون لعقود تحت نظام قمعي يتحكم في حياتهم اليومية. بعد سقوط النظام، قد يجد البعض صعوبة في التكيف مع المسؤولية الجديدة التي تتطلب اتخاذ قرارات حرة.
- الخوف من المستقبل: عدم وضوح المرحلة الانتقالية أو المخاوف من عودة نظام مشابه قد يزيد من القلق الجماعي بشأن المستقبل.
- آثار النزوح واللجوء.. الصدمة المزدوجة للنازحين: السوريون الذين عاشوا تجربة النزوح أو اللجوء سيواجهون تحدي العودة إلى وطنهم مع ذكريات قاسية عن التهجير والعيش في ظروف صعبة.
- صعوبة تجاوز الخوف المزمن.. الخوف من السلطات: حتى بعد سقوط النظام، قد يظل الخوف من السلطة راسخًا لدى الناس، نتيجة سنوات من التجربة مع القمع.
- التردد في التعبير عن الرأي: قد يواجه الناس صعوبة في التعبير عن آرائهم بحرية؛ بسبب سنوات من الكبت والخوف من العواقب.
- تحديات بناء الهوية الفردية والجماعية.. فقدان الهوية: بعد عقود من "تذويب" الأفراد داخل أيديولوجيا النظام، قد يواجه البعض صعوبة في إعادة اكتشاف أنفسهم كأفراد أحرار.
السعادة التي يعيشها السوريون اليوم ليست مجرد لحظة عابرة، بل هي بداية لمرحلة جديدة مليئة بالأمل والعمل لبناء مستقبل يليق بتضحيات هذا الشعب. ومع كل تحديات هذه المرحلة، يبقى الحلم الأكبر هو تحقيق العدالة والكرامة، والعمل على علاج الجروح التي خلفتها سنوات طويلة من القهر والاضطهاد.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.