شعار قسم مدونات

الوطن السجن!

مدونات - سجن الأسد صيدنايا
الكاتب: الحقيقة المرّة التي يتعامى عنها كثيرون هي أننا في سوريا كنا في سجن كبير (مواقع التواصل)

لا شكّ أنّ العقل والعاطفة والأخلاق، كلها تأبى أن تقبل ما شاهدناه في سجون نظام الأسد المخلوع، وصرنا نشعر أن هؤلاء السجناء المحررين هم أناس لا يشبهوننا، رغم أنهم ليسوا من كوكب آخر، لكن نحُولهم وشحوبهم وذهولهم، كل ذلك يكفي لتعلم أنهم كانوا في عالم آخر غير عالمنا، عالم مليء بالبؤس والعذاب ورائحة الموت.. هذا ناهيك عمّن خرجوا وقد فقدوا عقولهم واتزانهم. وكل ذلك مآله أنهم جُرّدوا من كرامتهم، وصودرت منهم إنسانيتهم.

يستوقفني مشهد بعض الذين نشطوا أخيرًا من العرب والأجانب، ممن يربّون الحيوانات المفترسة ويروّضونها، فهم يقدّمون لها كامل الرعاية ووافر الطعام، لينالوا منها صورة أو مقطع فيديو قصيرًا يُظهر شيئًا من المداعبة والموادّة.

كيف يستطيع الإنسان أن يحمل النقيضين؟ صحيح أن هؤلاء ليسوا أولئك! لكن الإنسان بفطرته يحنو على من يحب، على أبويه وإخوته وزوجه وأولاده وأصدقائه، وغيرهم من خاصته، وقد يكون في الوقت ذاته سجانًا يعذّب أبناء جلدته ويقتلهم.

حتّى أولئك الذين استطاعوا أن يفتحوا باب الوطن ويخرجوا منه، أو الذين قفزوا من شبابيكه، لم يتحرروا من سجنه، بل حملوه معهم في رحلتهم، فإمّا ماتوا بسبب حمله الثقيل غرقًا أو برصاص الحدود، وإمّا ناؤوا بحمله فكرًا فانفتحوا على العالم الجديد بشكل ساذج

سوريا سجن كبير

والحقيقة المرّة التي يتعامى عنها كثيرون هي أننا في سوريا كنا في سجن كبير، كل الشعب المقهور كان في ذلك السجن، وهو قد يشبه سجن صيدنايا بأشياء ويختلف عنه بأشياء أخرى، يختلف عنه في المساحة وبعض ظروف المعيشة، ويشبهه في بقية ظروف المعيشة القاسية وفي امتهان الكرامة.

إعلان

نحن كنا على مدى عقود لا نعرف كيف نحيا بكرامة، نعرفها بمعناها الفكري النظري، ونحتفظ بهذه المعرفة في عقولنا المخبأة، ونراها في حيزها التطبيقي عند غيرنا من الشعوب، فنستغربها ونغبط حامليها، وربما ظننّا أن من يمارس كرامته في بلد حرّ هو جريء أو متبذّل بفكره، لكن الحقيقة أن من لم يجرّب شعورًا ساميًا لا يستطيع أن يستحضره أو يبرّر منطقيّته.

سجن المنفى

حتّى أولئك الذين استطاعوا أن يفتحوا باب الوطن ويخرجوا منه، أو الذين قفزوا من شبابيكه، لم يتحرروا من سجنه، بل حملوه معهم في رحلتهم، فإمّا ماتوا بسبب حمله الثقيل غرقًا أو برصاص الحدود، وإمّا ناؤوا بحمله فكرًا فانفتحوا على العالم الجديد بشكل ساذج، وصاروا يتظاهرون بأنهم أصبحوا أحرارًا، مع أن الوطن السجن يسكن في نفوسهم، ويحرمها من الأمان، ولا عجب في ذلك؛ فقد خلّفوا وراءهم أحبّة وأقارب وأصدقاء، ما يفتؤون يَروُون فيهم معاناة السوريين في سوريا، فيحاول المنفيّون الاندماج بالمجتمع الجديد، متناسين ما يسمعونه، متجاهلين ما رأوه في الماضي ويرونه في الحاضر، ولا يثقون بتغييره في المستقبل. لكنّ صاحب الضمير الحي لا يهنأ وفي وطنه قطعة من جسده.

أحلامهم التي راودتهم قبل الخروج من الوطن بالحرية والسفر والحياة الرغيدة ظلّت مربوطة بجنزير الذكريات، وبأغلال أصوات صراخ الأحبّة من خلف الجدران العالية للوطن، فتدخل هذه الأصوات إلى أعماقهم وتكبّل أمنياتهم الوردية، وقد تقتلها إن حاولت الجموح إلى فضاء بعيد.

هكذا يصبح المنفى جزءًا من الوطن السجن، وهكذا تغدو الحياة الكريمة محرّمةً على الذين لم يتمكّنوا من الانعتاق من بيوتهم وحاراتهم وحقولهم التي في ضمائرهم. فالألم في الوطن هو الألم في المنفى، لا يزيد ولا ينقص، وكل خدمة يقدمها إليك المنفى لا تعوض شيئًا من كرامتك الموؤودة في وطنك.

والذي لم تصدّقه العيون والعقول حين سقط نظام الأسد هو حجم الفرح؛ الفرح الحقيقي، الفرح النابع من القلوب المتعبة، فرح الانعتاق من الماضي الأسود، فرح لا يضاهيه فرح الاستقلال من محتلّ غاشم، وما مرّ محتلّ على أمّة بأبشع مما مرّ على سوريا من ظلم هؤلاء الطغاة

الحلم المسجون

تحاول أن تكون قويًّا، تدرس وتحقّق شهادة عليا، تجتهد وتحظى بوظيفة مرموقة، تسكن بيتًا أجمل من بيتك الذي في وطنك في ظاهره، تظهر على وسائل الإعلام سياسيًّا معارضًا محنّكًا، تنتمي إلى حزب يرفع شعار الحرية، تنتسب إلى جماعة عسكرية تنادي بإسقاط الظلم عن كل مظلوم؛ تفعل كل ذلك وفي داخلك توق لأن تكون حرًّا ذا كرامة، لكنك تكرر اعترافك لنفسك مرارًا: لم أعرف الحرية بعد، ولم أتشبّع بالكرامة بعد؛ فكرامة الإنسان لا تكون إلا في وطنه، وحريته لا يمنحها له إلا وطنه.

إعلان

أما ذلك الذي بقي فيما يسمى الوطن، لم يسعفه المال ليخرج كما خرج أخوه، أو منعه الخوف على وطنه إن خرج منه كلّ الشرفاء وبقي اللصوص والمارقون، أو منعته الظروف المعقّدة التي تحيط بتفكيره وبقراراته، أو منعته الكرامة المفقودة في الوطن وخارج الوطن، فآثر البقاء أو أُلجِئَ إليه، ليحافظ على من تبقّى من أسرته وأصدقائه، وليبحث عن حلمه الضائع.. حلم! ما الذي بقي حقيقةً من هذا الحلم؟ فالنفوس الحرة تتشوّف إلى المجد والكرامة والرفعة، أما النفوس السجينة فلا تتطلّع إلّا إلى كسرة خبز أو شربة ماء أو طاقة من هواء ونور.

إذًا، سجون صيدنايا وتدمُر وفروع الأمن والمقابر الجماعية؛ لم تضمَّ أشخاصًا محدودي العدد من الأحياء والأموات، فالوطن كلّه غدا سجنًا يقيّد أبناءه ويذيقهم ويلات الإذلال والتعذيب، وغدا مقبرةً جماعية حوَت رُفات أحلامهم وآمالهم التي دُفنت منذ زمن بعيد، دُفنت حتى قبل أن تولد، فما دمت تعيش في زمن الأسد؛ فهذا يكفي لأن تنسى طعم الكرامة ورائحة الحرية ولون الحلم البهيج.

عرس الحرية

والذي لم تصدّقه العيون والعقول حين سقط نظام الأسد هو حجم الفرح؛ الفرح الحقيقي، الفرح النابع من القلوب المتعبة، فرح الانعتاق من الماضي الأسود، فرح لا يضاهيه فرح الاستقلال من محتلّ غاشم، وما مرّ محتلّ على أمّة بأبشع مما مرّ على سوريا من ظلم هؤلاء الطغاة.

إن هذا الفرح يشي بولادة جديدة تحمل معها الأمل الأخضر، وينبئ بتحرير النفوس من سجن عميق يهوي فيه السجناء دون أن يبلغوا قاعه، وها هم الآن خرجوا ورأوا طاقة النور فتمسّكوا بشعاعه، وشدّوا أجسادهم المتثاقلة لتعلو سطح الحرية، وليقفوا وينشدوا بصوت واحد يُسمع العالم ويقرع مسامع الظالمين: عاشت سوريا حرّة كريمة.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان