كثيرون تطرقوا إلى التحديات التي تواجهها العربية وسط مزاحمة اللغات الأخرى وتداعيات التقدم التقني؛ لكن غالبًا ما تُهمل تجربة غير العرب الناطقين بالعربية لغةً أجنبية. ففيمَ تختلف تجاربهم عن تجربة العرب؟ وأي فرص تكمن فيها؟
كثير من العرب يجدون صعوبة في أن يستأنسوا بالفصحى، لانحصار استخدامها في المواقف الرسمية، وبقدر ما ترمز لأبنائها إلى الترقي التعبيري، تعلق بها كذلك روح التكلف، فأي انطباع يحصل لدى الأجانب عند تعلمهم هذه اللغة؟
لماذا يقبلون على تعلّم العربية؟
العربية إحدى اللغات العالمية، فلا عجب أن الدوافع والمقاصد متنوعة؛ البعض مسحور بفيروز وأم كلثوم، وآخرون يستعدون للعمل في إحدى الدول العربية. وبينما يجدر بهؤلاء الاختيار بين الفصحى أو أنسب اللهجات لحاجاتهم، تقتصر فئة أخرى غالبًا على تعلم الفصحى، وهم المسلمون غير العرب، الذين يرغبون في تعلم لغة دينهم. فنجد خارج العالم العربي ناطقين بالعربية يفهمون العربي على المنبر، ويتحيرون عند محادثته.
تحدٍّ مختلف
كثير من العرب يجدون صعوبة في أن يستأنسوا بالفصحى، لانحصار استخدامها في المواقف الرسمية، وبقدر ما ترمز لأبنائها إلى الترقي التعبيري، تعلق بها كذلك روح التكلف، فأي انطباع يحصل لدى الأجانب عند تعلمهم هذه اللغة؟.
لكون الإسلام أقوى محفز على تعلم العربية الفصحى، يرجح عندهم النظر إليها نظرة المبجل المتشوق لتدقيق فهمه لدينه.. من وضع نصب عينيه تعلم لغة الإسلام، لن يكون من أولوياته التعود على الازدواجية اللغوية المعتادة عند العرب.
اللهجات العامية المتفاوتة إنما تزيد المتعلمين ارتباكًا؛ وبالتالي يقلّ اطلاعهم على المحتوى العامي نسبيًّا، فيكون وضعهم شبه معاكس لوضع العرب الذين يلجؤون إلى اللهجة إذا استثقلوا الحديث بالفصحى.
وهذا التردد بين الفصحى والعامية يجعل غير العربي يشعر بالإحباط أحيانًا، إذ بعد بذل مجهود ليس بالهيّن لاكتساب اللغة الفصحى يجد نفسه أمام خطباء وعلماء يبدؤون كلامهم بمقدمة مسجوعة، ويُتبعونها مزيجًا مذبذبًا بين لغة "الآجُرّومية" ولغة بني بلدتهم.
طالما عبّر هواة الفصحى في العالم العربي عن قلقهم من تقلص نطاق العربية الفصحى؛ لكن إلى الحين لم يجذب انتباههم كفايةً أن هناك جماهير نامية خارج وطن الفصحى تسعى لإتقانها، وتحظى بقابلية للإسهام في إثرائها بشكل جديد وخلاق
لغة متكاملة أم أداة محدودة؟
يستغرب كثير من الناطقين بالعربية الجدد، عندما يسمعون أن العرب يرون استخدام الفصحى في التواصل اليومي غريبًا، أو حتى مضحكًا!. من تعلم الفصحى ولم يتربَّ على أية لهجة سيعبّر عن أسمى الأشياء وأبسطها باللغة نفسها، دون أن يشعر بأنه تجسيد لبطل رسوم متحركة؛ ما يبيّن لنا أن التقسيم اللغوي المعتمد في العالم العربي عرَضي، بعيد عن الحتمية.. مع ذلك توجد عوائق تعقّد انطلاق اللسان بالفصحى في كافة أنحاء الحياة.
المتكلم غير العربي لا يستغرب الاعتماد على الفصحى في الكلام اليومي، إلا أنه يبني قدراته اللغوية مستندًا إلى كتب ودروس لا تعالج الفكاهة أو التقاليد أو الأعمال المنزلية، وما شابه ذلك.. فعندما يحاول توسيع مجال استخدام اللغة المكتسبة من لغة دين فقط إلى لغة متكاملة، سرعان ما يعترض له النقص في الرصيد اللغوي. ويزيد الأمر صعوبة أنه يتعذر اللجوء إلى المحتويات الصادرة من العالم العربي، لعدم استخدام العرب الفصحى في كل ما يخرج عن المواقف الرسمية.
فرصة غير مغتنمة
طالما عبّر هواة الفصحى في العالم العربي عن قلقهم من تقلص نطاق العربية الفصحى؛ لكن إلى الحين لم يجذب انتباههم كفايةً أن هناك جماهير نامية خارج وطن الفصحى تسعى لإتقانها، وتحظى بقابلية للإسهام في إثرائها بشكل جديد وخلاق. هنا تتاح للعربية الفصحى فرصة لأن تكون وسيلة تبادل الأفكار وترابط الثقافات، متعديةً حدود موطنها، ومتحررةً من حصرها في بطون الكتب ونشرات الأخبار.
متكلمو العربية غير العرب يتميزون بوجهة نظر متفتحة تجاه إمكانات العربية الفصحى، لكن يعانون من جفاف مصادر التعليم المتوفرة لهم، وضعف التواصل بالعالم العربي على الساحة الثقافية
تحديث مفهوم الفصحى
سبب انسحاب الفصحى من الشوارع والبيوت ليس عجزًا منها، بل هو تجميدنا إياها.. إذا تكلفنا بمحاكاة معاجم عمرها قرون مديدة في كل حرف وحركة، لم نحافظ على اللغة وإنما قيّدنا الألسنة وزهّدنا المتكلمين فيها.
إذا تأملنا لغات العالم الشائعة، وجدنا أنها كلها تملك مراتب من منتهى الرسمية إلى منتهى العفوية، إلا أن العربية تتميز بحدة الفاصل بين الرسمي (أي الفصيح) وغير الرسمي (أي العامي)، إلى درجة أن البعض يعتبرهما لغتين.
فإذا كان الهدف أن نهيّئ الفصحى لتخدم متكلميها في كل هذه المراتب، وجب علينا إيجاد "فصحى دارجة"، تكون فصيحةً من حيث الإقرار على قواعد الإعراب والصرف، ودارجةً من حيث إيجاد التعبير الأوجز، والترخص في امتصاص المفردات العامية التي تعطي فاعلية دون أن تعطّل النحو.. ماذا يضر لغة عالمية إذا قال الشخص في المقهى لجليسه "زَمَطْتُ" بدلًا من "استطعت أن أعمل الشيء في وقته"؟
تبادل خصيب
متكلمو العربية غير العرب يتميزون بوجهة نظر متفتحة تجاه إمكانات العربية الفصحى، لكن يعانون من جفاف مصادر التعليم المتوفرة لهم، وضعف التواصل بالعالم العربي على الساحة الثقافية.
بالمقابل يملك المتكلمون العرب خبرة في الحديث عن كل ما غاب عن المصادر التعليمية، ولو بمختلف لهجاتهم، فإذا استمددنا من سليقة العامة العربية ما نقص في المحتويات الفصيحة، تمكنا من إنعاش اللغة العربية الفصحى، ويكون هذا بطريقة لا تعتمد فقط على زجر من تجرأ أن يلحن، ولكن على استيعاب احتياجات المتكلمين وتلبيتها.
جغرافيا اللغة العربية لا تمتد من الخليج إلى أزقة الدار البيضاء فحسب، بل تزقزق أيضًا على ألسنة محبين لها لم يمشِ كثير منهم خطوة في دولة عربية قط. وهذا يستدعي إنشاء منصات، وتوفير آلات تسمح لهم بالمشاركة في النشاط اللغوي العربي.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.