- قراءة لثنائية "البحث عن المنفذ" للفنان العُماني سعود الحُنيني
استطاع الفنان العُماني سعود الحُنيني أن يُطوّع أسلوبه التشكيلي في المحاكاة البحتة بآليات حديثة ومعاصرة، من أجل خلق قدرٍ عالٍ من الجمال والحساسية، لإضفاء واقعية مثالية تتجاوز واقعية الصورة الفوتوغرافية، ليس من جانب تمثيل الحقيقة، وإنّما من الجانب الحسي والجمالي المقترن بهذه الحقيقة.
وقد قدّم في أعماله الفنية أدقّ تفاصيل الواقع، من خلال سنوات من الممارسة، ومن العطاء الموصول بشغف الوصول إلى تقديم إبداع لا متناهٍ ومتقن؛ فكان يُضاهي في واقعيته الفنانين الأميركيين روّاد التيار الواقعي المفرط (l’hyperréalisme) أمثال: شاك كلوز (Chek Close 1940-2021)، وروبرت بيكتل (Robert Bechtle 1932-2020)، ورالف غوينغز (Ralph Goings 1928-2016)، والفنان الهولندي تجالف سبارناي (Tjalf Sparnaay 1951)، الذين اتخذوا من الواقعية المفرطة أسلوبًا فنيًا رافضًا لكل أشكال الممارسة الحديثة، من تكعيبية وتجريدية وفن مفاهيمي وفن بوب آرت وواقعية تقليدية.
وقد انزاح فنانو الواقعية المفرطة عن منهج الرسامين الواقعيين الأوروبيين، الذين تبنوا مرجعية كارافاجيو وكوربيه، ولجؤوا إلى رؤية للواقع مستعارة من التصوير الفوتوغرافي المتطوّر، حيث إنهم قدّموا في أعمالهم نسخة صورية من الدرجة الثانية لهذه الحقيقة المستعارة، وأعادوا تأسيس وهمٍ بصري انطلاقًا من واقع مرئي، إلّا أن هذا الوهم- الذي اعتبره فنانو الواقعية المفرطة حيلة بصرية – لا يتأتى من الواقع المصوّر بل من الصورة الفوتوغرافية نفسها، وهكذا تصبح اللوحة الواقعية المفرطة حقيقة من الخيال. وبهذا المعنى يمكن تصنيف الانزياح في اللوحة الواقعية المفرطة لسعود الحُنيني مجازًا صوريًّا دلاليًّا، مبنيًّا على الأليغوريا التخْييلية.. كيف ذلك؟
الأليغوريا في مفهومها الشامل تمثل صورة مجازية، تُنتَج من مادة سردية، وتنطوي دائمًا على معنى ظاهر وآخر غير مباشر أو موارب أو خفي، يخضع إلى عملية التأويل
في تعريفه للأليغوريا، يرى الكاتب والشاعر التونسي فتحي النصري أنه وقع استخدام الأليغوريا في الثقافة الأوروبية على ظاهرتين مختلفتين؛ أما الأولى فهي طريقة في السرد، تستخدم كأداة بلاغية في خدمة التعبير عن فكرة، وأمّا الثانية فهي طريقة في البحث والتأويل، وُظِّفت من قبل الفلاسفة وعلماء الدين منذ العصور القديمة، "وسواء كانت الأليغوريا ظاهرة بلاغية أو تقنية تأويل، فإن مفهومها يؤول إلى أمر واحد، وهو ازدواجية المعنى في النصوص، أي أن المقصود بالقول شيء آخر غير ظاهره".
فالأليغوريا في مفهومها الشامل تمثل صورة مجازية، تُنتَج من مادة سردية، وتنطوي دائمًا على معنى ظاهر وآخر غير مباشر أو موارب أو خفي، يخضع إلى عملية التأويل. لذلك تُعدّ الأليغوريا شكلًا من أشكال المجاز الدلالي، فعندما تدخل السردية في تكوين الصورة، لا تكون منصهرة في بنيتها، ولا خاضعة لمقتضياتها الجمالية فحسب، بل تغدو السردية أسلوبًا فنيًّا ومادة لصناعة هذه الصورة.
ويرى فتحي النصري أن مفهوم الأليغوريا يتّسم بالتعدّد، وقد يضيق ليصبح مرادفًا لصورة بلاغية بعينها تكون استعارة مسترسلة، وقد يتّسع ليطلق على أسلوب التعبير المجازي، ليشمل التخييلات التي تفترض قراءة مزدوجة.
ويُعتَبر بيير فونتانييه (Pierre Fontanier 1765-1844) أوّل من "عدّ الأليغوريا من المجاز، الذي لا يكون بلفظة واحدة وإنما بكثرة من الألفاظ (Tropes en plusieurs Mots)، وأدرجها ضمن صور التعبير بالتخييل (Figure d’Expression par Fiction). والتعبير بالتخييل عنده مرادف للتعبير بالصورة (Figure d’Expression par Image)، وعرّفها بكونها كلامًا ينطوي على معنيين: حرفي ومجازي، ويعرض فكرة بواسطة صورة فكرة أخرى تضفي عليها طابعًا محسوسًا، وتجعلها أشدّ إثارة وإدهاشًا".
تظهر الأليغوريا، التي يقدّمها سعود الحُنيني في هذا التمثيل، على أنها حكاية ذات طابع رمزي، استعار فيها الفنان تشخيصية تخييلية، فالصفات والحركات التي تقدّمها الشخصية بطلة الحكاية، تحمل قيمة علاماتية، كما يحمل الزمان والمكان بدورهما في هذا المشهد طابعًا رمزيًّا
وقياسًا إلى هذا الاعتبار، فإن ثنائية سعود الحُنيني -التي تحمل سردية مسترسلة – ليست إلا صورة لتعبير تخييلي مبني بأسلوب الواقعية المفرطة، فاللوحتان لا تمثلان مشهدًا لواقع حقيقي أو مقبول، وإنّما تمثلان مشهدًا لتعبير مجازي ذي طابع محسوس تخييلي، قائم على مرادف صوري تعبيري واقعي، حيث تمثل لوحة "البحث عن المنفذ" – في جزئها الأول – صورة لمخاض عسير لإنسان يحاول بجهد الدفع بجسده للخروج من وراء رَحِم ستار من القماش الهش، حيث لا يمكن التعرّف على جنس هذا الإنسان ولا عمره، ولا يُرى من وراء هذا الستار سوى أثر بعض أطراف الوجه والأصابع والصدر والركبة، البارزة قليلًا والخارجة بظلها على المشهد.
تظهر الأليغوريا، التي يقدّمها سعود الحُنيني في هذا التمثيل، على أنها حكاية ذات طابع رمزي، استعار فيها الفنان تشخيصية تخييلية، فالصفات والحركات التي تقدّمها الشخصية بطلة الحكاية، تحمل قيمة علاماتية، كما يحمل الزمان والمكان بدورهما في هذا المشهد طابعًا رمزيًّا.
ويمكن، من خلال تأويلنا للجزء الأول من اللوحة الثنائية، أن نستنتج ازدواجية دلالية من خلال المظهر الأليغوري للصورة الواقعية المفرطة، حيث يمكن قراءة المشهد على أنه ولادة شاقة لإنسان يرنو إلى اكتشاف مستقبله في عالم تلُفّه الهشاشة.
كما يمكن أن يُقرأ على أن بطل هذه الحكاية ليس سوى شخص محجوب عن الأنظار، لا يُدرى حاله، متستّر بحجاب كثيف بشدّة، وقد يرمز إلى الفكر أو الأخلاق أو الأعراف أو الدين..، ولا يُعرف إن كان يريد البقاء وراءه أو اجتيازه.
أما الجزء الثاني من اللوحة، فيزيد من إثارة الطابع الأليغوري فيها، حيث يتّصل التعبير الصوري بالمجاز الرمزي الذي يدلّ عليه، فتصبح المشابهة للواقع بأسلوب الواقعية المفرطة، خادمة للفكرة والمعنى المراد المجاز إليه، وليست خادمة للحقيقة المرئية أو الصورة المتأتية حقيقة من الخيال.
إذ يشير سعود الحُنيني إلى ولادة في زمن يضطرم العالم فيه بلهيب العداء والقتال والحروب والآلام (الولادة هنا بمعنى الحياة والوجود)، حيث ينشرخ الحجاب إلى ثقوب عديدة يتضح من خلالها شدة ظلمة الرحم (سواد العقل)، التي تحاول الشخصية المقيدة فيه بسلاسل من حديد (قد ترمز هذه الشخصية إلى الفكر الحر أو الإبداع) والممنوعة من النظر في اتجاه المستقبل الملتهب (أي عراقيل الحياة)، الخروجَ من هذا الرحم بمشقة وصعوبة.
هل سيكون البحث عن المنفذ داخل الرحم الأسود المظلم أو خارجه في اتجاه المستقبل المضيء بلهيب الفتن والعوائق والعراقيل؟
فـ"البحث عن المنفذ"، ليس عنوانًا وصفيًّا سرديًّا لحقيقة مرئية واقعية، بل هو أليغوريا، كما وصفها أندري لالاند (André Lalande 1867-1964) بأنّها "تعبير رمزي ملموس يمتدّ على قصّة بأكملها أو لوحة، بحيث يوافق كل عنصر من عناصر الرامز Symbolisant عنصرًا من عناصر المرموز إليه Symbolisé"، فكل مكوّنات اللوحة لها دلالة، وتحيل إلى معنى رمزي يخدم السياق المجازي المراد تمثيله.
فهل سيكون البحث عن المنفذ داخل الرحم الأسود المظلم أو خارجه في اتجاه المستقبل المضيء بلهيب الفتن والعوائق والعراقيل؟. هكذا يتساءل سعود الحُنيني من خلال تصوّره للواقع الإنساني المليء بالظلم والاضطهاد، والذي يجاهد فيه الإنسان من أجل التحرر وإرساء خريطة حياتية جديدة، خالية من كل أشكال الظلامية.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.