يحتفلُ العالم بعام جديد وسط أجواء الفرح والمرح والسرور، بين الألعاب النارية ومشاهد خلابة تُظهر حجم التقدم والحداثة. وعلى النقيض تمامًا تدخل غزة العام الجديد وسط أجواء الحزن والبؤس والهموم، بين زخات الرصاص وتساقط القذائف، ومشاهد الدمار والخراب التي تُظهر حجم المجازر والإبادة.
لقد تجرع قطاع غزة الويلات طيلة سنوات من حصار وحرمان، هذه الويلات ازدادت أضعافًا مضاعفة مع العدوان الإسرائيلي منذ أكتوبر/ تشرين الأول عام 2023، الذي أتى على كل شيء من بشر وحجر في غزة، فلم تعد غزة التي نعرفها، ويكأنّ زلزالًا قد أصابها فقلب أركانها رأسًا على عقب.
إن ما مرت به غزة هذه المرة لم يمر على أحد من قبل، ولم تشهده بقعة جغرافية في العالم من حيث التقتيل والتدمير والتشريد. وكأن أقطاب العالم الظالم أرادوا تجريب أسلحتهم المتطورة والفتاكة المصحوبة بتكنولوجيا دقيقة، فلم يجدوا سوى "إسرائيل" أداة لذلك، والضحية كانت شعب غزة المكلوم.
الأمل الأكثر بروزًا لدى الغزيين خلال عام 2025 هو إنهاء العدوان، وأن تضع الحرب أوزارها بما تحمله من أهوال وأحوال ودمار وتشريد وتجويع؛ فالعودة إلى الديار حتى وإن كانت دمارًا هي أمل كبير
لقد شهد التاريخ على حجم الإجرام في حق البشرية خلال أحقاب زمنية عدة، الذي مارسه أقوام كالتتار والمغول، إلى جانب الحروب الصليبية وغيرها، لكن لم تعهد أي حقبة تاريخية من قبل كحروب "إسرائيل" بحق فلسطين، ولا سيما غزة، فلا قيم فيها للإنسان أو حتى الحيوان، لا أمان لحياتهم، ولا إسعاف لمصابهم، ولا دفن لموتاهم، ولا طعام لجوعاهم، ولا مياه لعطاشهم، ولا حليب لأطفالهم، ولا دواء لمرضاهم.. أي جرم هذا الذي تشهده البشرية؟ وأي ظلم ذاك الذي ترضاه الإنسانية؟!
يأتي العام الجديد (2025) في ظل ألم كبير يعانيه الغزيون من قتل جماعي للعائلات، وتهجير قسري للساكنين، وتدمير ممنهج للمنازل والمساكن، منازل مدمرة لم يجد عنها النازحون بديلًا سوى خيام بالية لا تقيهم حر الصيف أو برد الشتاء؛ فللخيام في شتاء غزة حكاية أخرى، حيث الأمطار التي تغرقها، والرياح التي تقتلع أعمدتها، فتشرّد من فيها وتقتل قاطنيها من الأطفال. فلقد توفي العديد من الأطفال في تلك الخيام المهترئة، نظرًا لشدة البرودة التي جمّدت أفئدتهم قبل جلودهم.
لأول مرة تجد بعض النازحين يهتفون ويناجون ربهم، وأكفهم وأعينهم نحو عنان السماء، يدعون ويتضرعون ويصرخون: "يا رب أوقف المطر، يا رب!"؛ فالمطر الذي يرسله الله رحمة لنا، أضحى بعضهم يرونه وكأنه مصيبة جديدة تحل بهم وتزيد من معاناتهم.
ولربما استجاب الله تلك الدعوات، فقد انحبس المطر عن غزة لفترات عدة، وقد كان مختصو الأرصاد الجوية قد تنبؤوا فيها بهطول كبير للأمطار، ومنخفضات عميقة ستضرب غزة، وتحديدًا سواحلها التي تمتلئ بخيام مئات الآلاف من النازحين.
وقد ذكرت الأرصاد الجوية أن قطاع غزة يشهد انحباسًا للأمطار لم يشهده منذ 20 عامًا، لتظهر هنا رحمة الله بالنازحين والمشردين والثكالى والمكلومين، ومن يفترشون الأرض ويلتحفون السماء.
نجمع نحن – الغزيين – أن إنهاء العدوان سوف يليه العديد من العذابات التي ستنتهي معه، ألم سينتهي وسيأتي محله أمل، أمل الأمن والأمان والاطمئنان، وأمل العودة، وأمل اللقاء، وأمل الشفاء من كل أذى آلمنا
إن هذا يدفعنا لأن نتمسك بحبل الأمل رغم حجم الألم، ففي كل شر يبدو ظاهرًا هناك خير يكمن باطنًا، ونحن على يقين بأن الاحتلال إلى زوال، وأن مصير الظالمين الفناء، فلم يعمر ظالم أو محتل، بل علمنا التاريخ عواقب الظلم وما آل إليه كل احتلال، وأن لا دولة تحررت من براثن الاحتلال وجبروته إلا وقدمت ضريبة مقابل ذلك، فضحت بأرواحها وأموالها وممتلكاتها كي تتحرر، وكي تعيش الأجيال اللاحقة حياة كريمة آمنة مطمئنة.
إن الأمل الأكثر بروزًا لدى الغزيين خلال عام 2025 هو إنهاء العدوان، وأن تضع الحرب أوزارها بما تحمله من أهوال وأحوال ودمار وتشريد وتجويع؛ فالعودة إلى الديار حتى وإن كانت دمارًا هي أمل كبير، يحدو الحنين إلى المكان الذي نشأ فيه الفلسطيني وترعرع، وقضى سنوات حياته وعاش ذكرياته فيه.
والأمل الكبير الآخر أن يلقى الأحبة بعضهم بعضًا، فتلتقي الأم بفلذات أكبادها، وتلتقي الزوجة بزوجها، والأخ بأخيه، والأخت بأختها، وذلك بعد أن فرقهم الاحتلال بين جنوب وشمال، ومنع لقاءهم لأشهر طوال.
هذه التفرقة التي لم تقتصر فقط على تقطيع أوصال القطاع، بل شملت اعتقال الشباب والرجال والفتية من غزة، وقد تجاوزت أعدادهم الآلاف في سجون الاحتلال، مغيبين عن ذويهم وأسرهم وأحبابهم، لا أحد يعلم عنهم شيئًا إلا أنهم معرضون في كل لحظة للتعذيب والحرمان، فلا طعام يسد جوعهم، ولا لباس يدفئهم في شدة الطقس وبرودته؛ يئنّون في سجن صغير، وذووهم في قطاع غزة لا يزالون يئنّون في سجنهم الكبير.
نجمع نحن – الغزيين – أن إنهاء العدوان سوف يليه العديد من العذابات التي ستنتهي معه، ألم سينتهي وسيأتي محله أمل، أمل الأمن والأمان والاطمئنان، وأمل العودة، وأمل اللقاء، وأمل الشفاء من كل أذى آلمنا وعذبنا، على أمل العودة الكبرى إلى أراضينا المحتلة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.