بين عشية وضحاها وجد مسلمو بريطانيا أنفسهم بين شقي الرحى؛ فمن جهة يعمل الإعلام الغربي جاهدًا ليل نهار على إبقاء فتيل الإسلاموفوبيا مشتعلًا، ومن جهة أخرى يسعى اليمين المتطرف لاستغلال كل فرصة تظهر أمامه للطعن في المسلمين وشيطنتهم وحشد الرأي العام ضدهم، وهو الأمر الذي نتج عنه نشوب أسوأ موجة عنف في البلاد منذ 13 عامًا.
ولكنْ، ما الذي حدث في بريطانيا خلال الأيام الماضية ليجعل شوارعها مضيئة بنار العنصريين التي أحرقت الأخضر واليابس في طرفة عين؟ ولماذا تحرص الجماعات المتطرفة على التحريض على الجالية المسلمة وأبنائها، ودفع الأحداث إلى ما لا تُحمد عقباه؟!
هذا ما سنتعرف عليه خلال السطور القادمة عبر تطوافة متأنية، نشرح خلالها مخططات اليمين المتطرف تجاه المسلمين والعرب والمهاجرين المتواجدين في البلاد.
الخوف والذعر الذي اجتاح المجتمع المسلم، خصوصًا النساء اللاتي تلقين سيلًا من التهديد بالاغتصاب، وغيرها من التهديدات، ناهيك عن خوفهن من النزول إلى الشوارع وهن محجبات، حتى لا يتعرضن لاعتداء غاشم من مغرر به حانق، أو متطرف عنصري حاقد
حادث مقتل الفتيات
أدى مقتل 3 فتيات صغيرات طعنًا وإصابة 10 أشخاص آخرين، على يد مراهق يبلغ من العمر 17 سنة، لم تحدد الشرطة البريطانية هويته، إلى اندلاع موجة عنف غير مسبوقة في مدينة ليفربول وسط بريطانيا، ضد المسلمين والمهاجرين، بعد انتشار معلومات مضللة على مواقع التواصل الاجتماعي، تشير إلى أن المهاجم لاجئ "مسلم".
اندلعت على إثر ذلك موجة احتجاجات في عدد من المدن البريطانية، تخللتها أعمال تخريب ضد المنشآت العامة والخاصة، ومواجهات عنيفة مع الشرطة، هاجم خلالها العشرات من أنصار اليمين المتطرف مسجدين في مدينتي "ساوثبورت وسندرلاند" شمالي بريطانيا، مرددين شعارات عنصرية ضد المسلمين ومعادية للمهاجرين. كما حطم متظاهرون ملثمون واجهة أحد الفنادق التي تؤوي مهاجرين من طالبي اللجوء في "روثرهام" جنوب منطقة يوركشير، وأضرموا النار فيه مرددين عبارات مناهضة للمهاجرين.
الحقيقة الساطعة
قاتل الطفلات الثلاث في مدينة ساوثبورت ببريطانيا، المسلم المهاجر الذي زعم المتطرفون أنه يحمل اسم "علي"، ليس مسلمًا ولا مهاجرًا ولا يحمل اسم "علي"، بل وُلد القاتل في بريطانيا واسمه "أكسيل"، ويزور والداه الكنيسة بانتظام. وللأسف، فإن الصورة النهائية للقاتل – كما عرضتها السلطات البريطانية – لم تنجح في كبح العنف الشعبوي ضد المسلمين، سواء من أفراد أو منشآت، كما لو أن المسلمين ينالون ما يستحقونه؛ بسبب عيوب جينية يحملونها في الحمض النووي الخاص بهم، حتى وإن لم يكونوا الفاعلين لهذه الوقائع المزعومة كذبًا وزورًا.
انطلقت الحكاية على منصة إكس عبر حساب يحمل اسم "Europe Invasion" (غزو أوروبا)، وخلال ساعات شوهدت التدوينة التي تتحدث عن "قاتل مسلم مهاجر"، وأهمية التصدي لإجرام المسلمين في المجتمع البريطاني، حوالي 6 ملايين مرة، وظهرت على منصات أخرى رسالة تدعو البريطانيين للتجمهر والتعبير عن الغضب، وسرعان ما استجابت شرائح من المجتمع البريطاني للرسالة، حيث شوهدت النيران في عشرات المساجد وعدد من معسكرات اللجوء، بما فيها فنادق يمكث فيها مهاجرون غير شرعيين.
والأكثر فظاعة وخطرًا من حرق الممتلكات ودور العبادة، هو ذلك الخوف والذعر الذي اجتاح المجتمع المسلم، خصوصًا النساء اللاتي تلقين سيلًا من التهديد بالاغتصاب، وغيرها من التهديدات، ناهيك عن خوفهن من النزول إلى الشوارع وهن محجبات، حتى لا يتعرضن لاعتداء غاشم من مغرر به حانق، أو متطرف عنصري حاقد.
قال رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر إنه سيدفع بالمزيد من التعزيزات الأمنية للتعامل مع مثل هذه الأحداث لاستعادة الأمن في عموم البلاد، متوعدًا المشاركين في الأعمال التخريبية بأنهم لن يفلتوا من المساءلة القانونية
موقف الحكومة من الأحداث
ألقت الحكومة على لسان رئيس وزرائها باللائمة على اليمين المتطرف، جراء وقوع موجة العنف هذه تجاه المسلمين والعرب والمهاجرين، والتي شملت رقعتها تقريبًا كل أراضي بريطانيا وشمال أيرلندا، ليتضح بشكل جليّ أنها أكبر بكثير من كونها "بلطجة يمينية"، كما تقول كلمات كير ستارمر رئيس وزراء بريطانيا، وأن جذورها العميقة هي التي غذت هذه الموجة، وهيأت أرضية خصبة لنشوبها في التوقيت الذي استغله أنصار أحزاب اليمين المتطرف في البلاد.
ولم تستطع الحكومة بعد تحديد الجهات الضالعة في أحداث الشغب الأخيرة، توجيهَ تهمة لجهة محددة بعينها، حيث يبدو أنها احتجاجات التف حولها طيف واسع من الوجوه اليمينية والمناهضين لهجرة الأجانب، في الوقت الذي ساهمت فيه وسائل التواصل الاجتماعي في تسهيل التعبئة للتظاهر، عبر نشر مقاطع تحريضية ضد الأقليات المسلمة والمهاجرين، باعتبارهم الأطراف المسؤولة عن تردي الأوضاع في بريطانيا.
وقال رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر إنه سيدفع بالمزيد من التعزيزات الأمنية للتعامل مع مثل هذه الأحداث لاستعادة الأمن في عموم البلاد، متوعدًا المشاركين في الأعمال التخريبية بأنهم لن يفلتوا من المساءلة القانونية. وأشار ستارمر إلى أن بعض المتهمين قد مثل أمام المحكمة، محذرًا من الانخراط في أي نشاط تحريضي، سواء في الشارع العام أو عبر الفضاء الرقمي، حيث هدد الضالعين في التحريض الإلكتروني بالمتابعة القانونية.
الإحصاءات الرسمية تشير أيضًا إلى انخفاض أعداد المهاجرين الذين استطاعوا عبور القناة البريطانية خلال السنوات الماضية، حيث سجل خفر السواحل البريطاني عبور حوالي 603 مراكب في 2023، مقارنة مع ضبط حوالي 1000 مركب هجرة غير نظامية عام 2022
تفنيد أكاذيب اليمين المتطرف
بحسب آخر إحصاء وطني رسمي، فإنه يعيش حوالي 4 ملايين مسلم في بريطانيا، ويشكلون ما يُقدر بـ6.5% من مجموع تعداد السكان في المملكة المتحدة، وتتركز الجاليات المسلمة في 5 مناطق حضرية كبرى، تتصدرها منطقة برمنغهام، التي تضم ما يناهز 350 ألف مسلم، تليها برادفورد التي تضم ما يقارب 167 ألف مسلم، بالإضافة إلى العاصمة البريطانية لندن، التي يقطنها حوالي 145 ألف مسلم، ومدينة مانشستر التي ينتشر فيها حوالي 123 ألف مسلم.
وتشير التقديرات إلى أن المسلمين أصبحوا موزعين في مناطق أخرى بعيدة عن مراكز التجمع التقليدية، مع الأخذ في الاعتبار أن 40% من الأقليات المسلمة تعيش في أوضاع هشة، وفي مناطق يغلب عليها طابع الفقر وغياب العدالة الاجتماعية.
ويرى المجلس الإسلامي في بريطانيا في تقرير له أن هذه الأرقام الرسمية تتعارض مع ما تروج له دعاية اليمين المتطرف، بشأن ارتفاع أعداد المسلمين في بريطانيا، وتؤكد بشكل ملموس أن الجالية المسلمة ما زالت تتعرض للتهميش والحرمان والإقصاء الممنهج.
وفيما ترتفع أصوات المحتجين المتطرفين من جهة أخرى ضد طالبي اللجوء في بلادهم، فإن الإحصاءات الرسمية تشير أيضًا إلى انخفاض أعداد المهاجرين الذين استطاعوا عبور القناة البريطانية خلال السنوات الماضية، حيث سجل خفر السواحل البريطاني عبور حوالي 603 مراكب في 2023، مقارنة مع ضبط حوالي 1000 مركب هجرة غير نظامية عام 2022، وأوضح مجلس المهاجرين أن حوالي 25% فقط من طالبي اللجوء تم البتّ في طلباتهم من قبل وزارة الداخلية البريطانية.
وتتعارض هذه التقديرات من جديد مع الرواية التي يروج لها اليمين المتطرف، والتي يصفها كثيرون بأنها محاولة للتهويل من أعداد المهاجرين القادمين من بلدان عربية وإسلامية إلى بريطانيا، بهدف نسج سردية تسوغ خطاب الكراهية ضدهم.
يتوجب على مسلمي أوروبا استغلال كل مواطن النفوذ المتاحة أمامهم، كاللجوء إلى القضاء، والوصول إلى البرلمان عبر ممثلين لهم، وإيجاد حلول دائمة عبر مواثيق وقوانين حازمة؛ لحماية أنفسهم ولكي يتمكنوا من العيش بحرية وأمان
اعتقالات جراء الأحداث
قالت الشرطة البريطانية إنها ألقت القبض على أكثر من ألف شخص حتى الآن، وذلك بعد أيام من أعمال الشغب التي قادها أنصار اليمين، وتضمنت أعمال عنفٍ وحرقٍ ونهب واعتداءات عنصرية، استهدفت مسلمين ومهاجرين.
وأفاد مجلس رؤساء الشرطة الوطنية في أحدث بيان له، بأنه جرى اعتقال 1024 شخصًا وتوجيه اتهامات لنحو 575 منهم في أنحاء المملكة المتحدة، في أعقاب أحداث الشغب تلك التي اجتاحت البلاد.
وجرت الاعتقالات على نطاق واسع، إذ شملت تقريبًا كل دوائر الشرطة في أنحاء بريطانيا وبعض المناطق في ويلز وأيرلندا الشمالية، وفي الوقت نفسه بدأت إجراءات قضائية بحق المشتبه بهم، حيث وجهت السلطات إليهم اتهامات رسمية، بجانب أنه قد أصدرت محكمة بريطانية أول حكم بالسجن؛ بسبب التحريض عبر الإنترنت.
كلمة أخيرة
لا شك أن أنصار اليمين المتطرف في كافة الدول الأوروبية يمارسون الدور نفسه، ويحاولون جاهدين النيل من أهل الإسلام بشكل خاص، ويحدث هذا بالتزامن مع وجود حكومات غربية تطلق العنان للإعلام؛ لإبقاء لهب الإسلاموفوبيا مشتعلًا، في ظل تخوفات كبيرة من انتشار الإسلام وسيطرته على القارة الأوروبية في المستقبل القريب وكذلك البعيد، لكنْ تبقى الجاليات المسلمة هي الضحية التي وجدت نفسها في دائرة صراع، لم يكن لها الاختيار في الدخول إليها أو البقاء فيها.
ولذلك، يتوجب على مسلمي أوروبا استغلال كل مواطن النفوذ المتاحة أمامهم، كاللجوء إلى القضاء، والوصول إلى البرلمان عبر ممثلين لهم، وإيجاد حلول دائمة عبر مواثيق وقوانين حازمة؛ لحماية أنفسهم ولكي يتمكنوا من العيش بحرية وأمان، في ظل وجود إعلام متربص لا يرحم، وجماعات متطرفة لا تهدأ.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.