لا يكاد ينقضي أسبوع لا يتعرض فيه صحفي أو مقاوم للاغتيال في فلسطين أو لبنان، أو في أي مكان لجوء أو منفى، فيما يبدو تفوقًا إستراتيجيًا للمحتل، وتقدمًا مستمرًا في حرب استنزاف لجسم مقاوم، يبدو لأول وهلة بلا مخالب.
تتوالى الاغتيالات منذ عقود، لتؤكّد خطورة سلاح الاستخبارات والمعلومات، الممهدة لعمليات التصفية والاغتيال. وما يزال صدى اغتيال قائد حماس، الشهيد إسماعيل هنية، يتردد في كافة الأرجاء والزوايا، يقرع أبواب العقل الأمني والإستراتيجي الفلسطيني، وما ينفك يطرح أسئلة بخصوص الفشل الاستخباراتي، وسهولة الاختراق.. وقد يكون ذلك الأثر، وتلك التداعيات الارتدادية، بعضًا مما أخّر الرد المحتمل على جريمة الاغتيال .
هي حلبة تحتضن معارك بلا ضجيجٍ ونيرانٍ وقتلى، وهي على الأرجح كاللُجّ المتواري الزاخر بحراك ومفاجآت تعتمل في عمقه قبل أن تطفو في غفلة من الجميع، فتسحب ضحاياها وتبتلع فرائسها على صور اغتيالات لا تعدو في ظاهرها لحظات نادرة مستقطعة من سياق الواقع ومسار الأحداث
ولفتت الانتباه سيرة الرئيس الجديد للحركة، يحيى السنوار، لتركيزه ونجاحه العجيب في رصد واستهداف العملاء والجواسيس وتصفيتهم، على أساس أن ذلك أهم الأخطار المهددة لكيان المقاومة قبل استهدافات الاحتلال وعدوانه.
كما لا يستبعد كثيرون أن اندلاع طوفان الأقصى، ونجاحه في ضربته المباغتة وصموده المتواصل، تأسس بالخصوص على قاعدة متينة من المعلومات الاستخباراتية، والتحصين الأمني للخطط والتحركات المدرجة ضمن الخطة المعدة حتى ساعة الصفر.
وأيًا كانت التقييمات والمقاربات والتحاليل بشأنها، علينا أن نتساءل: أين نحن من تلك الأداة الفتاكة والحاسمة في المعارك والحروب؟ وإلى أي مدى تمتد فراستنا الاستخباراتية بين رمزَي نجاح الطرفين: رأفت الهجان وإيلي كوهين؟. سؤال عالق قد يتبادر إلى الذهن لدى تصفح كتب الجواسيس ودفاتر العملاء، وحصاد مغامراتهم المحسوبة بعناية والمدروسة في غفلة من عيون الخصم ورقابة العدو.
"عندما تعرف عدوك، وتعرف نفسك، ستنجو من الخطر في أي مواجهة".. ربما تكون هذه هي القاعدة الأولى لحرب الجاسوسية في العالم، والتي وضعها الفيلسوف والخبير العسكري الصيني سون تزو في كتابه "فن الحرب"، في القرن الرابع قبل الميلاد، ليكشف من خلالها أن هناك جانبًا آخر للمعارك بين الدول، ربما ينشط في أوقات السلام؛ تأهبًا للمواجهة الناجحة لدى اندلاع الحروب.
وقد لا يعي المتابع العادي لسير المعارك والحروب ما يجري خلف الساحات، من خطط ومنشورات ودسائس تديرها أجهزة استخبارات، يعدها البعض – بحسب قدراتها ومداها وحجمها وفاعليتها – من مقاييس قوة الدول، ونجاحها في تحصين أمنها القومي الشامل.
هي ساحة حرب يغفلها البعض من الوادعين في أمنهم القومي الماتع والخادع.. بيد أن نباهة العملاء وفتنة الجاسوسات، ولغة الدولار وسوق المتعة، قد تعوض جيوشًا، وتحقق من الانتصارات ما لم تبلغه الجيوش بالدبابات والصواريخ.
هي حلبة تحتضن معارك بلا ضجيجٍ ونيرانٍ وقتلى، وهي على الأرجح كاللُجّ المتواري الزاخر بحراك ومفاجآت تعتمل في عمقه قبل أن تطفو في غفلة من الجميع، فتسحب ضحاياها وتبتلع فرائسها على صور اغتيالات لا تعدو في ظاهرها لحظات نادرة مستقطعة من سياق الواقع ومسار الأحداث.
ما من شك أن تنفيذ الاغتيالات المتتالية، والتي أدركت رموز الصف الأول من المقاومة، من أبي جهاد والشقاقي والشيخ أحمد ياسين وشحادة والرنتيسي ومغنية، إلى فؤاد شكر فإسماعيل هنية، ما كان لها أن تتم بتلك الدقة لولا تنفيذ خطط جاسوسية محكمة
والبحر – كما كتب صالح مرسي – شأنه شأن الحياة في المدن والقرى والمصانع والمتاجر.. نوع من أنواع النشاط الإنساني!. كما أنّ التجسس نوع من أنواع النشاط الإنساني، بل ربما كان واحدًا من أقدم النشاطات الإنسانية على الإطلاق. وهناك بالتأكيد لائحة متنوعة وفريدة من الأسلحة الخفيّة ذات الوقع الرهيب والفعال في حرب المخابرات والجاسوسيّة.
هناك دول عظمى آمنت أن آخر الطبّ في المعارك الكبرى قد لا يكون ترسانة أو صواريخ أو مدمرات أو أسلحة نووية، ولا حتى في ضربات قاتلة وحساسة، واختيارات أو اختراقات لمكامن القوة والقدرة على الردع.. قد تكون لحظة ضعف أعقبت خيارًا طائشًا في طريق ملتوٍ.. ودرب النزوات سهل ولكنه مليء بالمنعرجات والمنحدرات الخطيرة.. لم تخلُ جولات الحرب بين العرب وإسرائيل من مثل تلك المراوغات والأحابيل.
بين قصتَي الإسرائيلي إيلي كوهين ورأفت الهجان لم تكن الحرب سجالًا بين العرب والمحتل الماكر.
وما من شك أن تنفيذ الاغتيالات المتتالية، والتي أدركت رموز الصف الأول من المقاومة، من أبي جهاد والشقاقي والشيخ أحمد ياسين وشحادة والرنتيسي ومغنية، إلى فؤاد شكر فإسماعيل هنية، ما كان لها أن تتم بتلك الدقة لولا تنفيذ خطط جاسوسية محكمة، تستفيد من أحدث التقنيات، وتعتمد تجنيد العملاء وترتيب مخططات الاستهلاك، بعد استكمال مكونات المشهد وتركيب عناصر الصورة والمسارات وتدقيق الأزمة والأمكنة.
في قناعة الاحتلال ومنهجه الإستراتيجي والتكتيكي لا يمكن الاكتفاء بوضع اللوائح واعتماد أدوات الفتك وحدها، بدليل أنها لم تكفِ لحسم المعركة في طوفان الأقصى.. قصص الجاسوسية الشهيرة أثبتت أن سلاح الاستخبارات يمكن أن يختصر المسافات، ويضمن نفاذًا سريعًا للهدف، ومن ثم تعديل الخطط وإعادة تصويب نهج المواجهة.
لا ينسى أحد ما فعل الجواسيس ببعض وزراء السلطة الفلسطينية، وتباهي تسيبي ليفني بصولاتها لترويض أي كان لتحقيق صالح دولة الكيان
دروس الجَوسَسة التي أثخنت في الأعداء، وحصدت ما لم تحققه معارك طويلة ضارية، تثبت أنها سلاح مرشح في غالب الأحيان لتغيير المعادلات، وتقوية حظوظ التفوق، وتجاوز معادلات الردع وحسابات الحرب، وقلب توازنات الرعب.
الجاسوسة الحسناء مارتيا لورين كادت تكون السلاح الوحيد الإنجليزي في تحقيق الهدف الأميركي الأول في الخمسينيات، وهو تصفية الجار الكوبي المزعج كاسترو؛ وكريستين ميلر روضت وزيرًا بريطانيًّا، ونفذت إلى عمق أسرار بلاده لصالح الروس، وأدت الفضيحة إلى استقالة رئيس الحكومة.. وقبلهما كانت أرمجارد شميدت في ألمانيا، والعميلة المزدوجة الهولندية ماتا هاري خلال الحرب العالمية الأولى، وقد انتهى أمرها بالإعدام.
ولا ينسى أحد ما فعل الجواسيس ببعض وزراء السلطة الفلسطينية، وتباهي تسيبي ليفني بصولاتها لترويض أي كان لتحقيق صالح دولة الكيان.
وعلى الطريق ذاته تتابعت تصفيات القيادات الفلسطينية على غرار المبحوح في دبي، ومحاولة تصفية مشعل في عمان، واغتيال كثيرين على أرض غزة، وفي ضاحية بيروت، وجنوبي لبنان وأماكن أخرى، لتؤكد سهولة الاختراق وجدية الإسرائيلي في اعتماد الجوسسة والاستعلامات أداة لضرب المقاومة، والتخلص من رجالاتها أحيانًا كثيرة دون ترك بصمات.
وأنا أتصفح حلقة من مجموعة أعمال صالح مرسي، وبالأخص "الصعود إلى الهاوية"، شدني – قبل رسم مشاهد الرواية ولوحات قصصها – إقراره أن الخيال لا يجاوز حدود الواقع الفعلي، وأن "عملية من عمليات المخابرات، حتى لو كانت تُنشر كعملية مخابرات خالصة لا دخل للأدب فيها، من المحال أن تُنشر كما حدثت ووقعت، ذلك أن هناك مناطق محرمة، لا يفرط فيها أي جهاز للمخابرات في العالم مهما بلغت درجة ما يخرج للنشر في أي دولة من دول العالم، فتلك مناطق تمسّ أمن الدولة مسًّا مباشرًا".
هل علم العرب وأدركوا بالفعل أن الاستعلامات فن الحيلة، وأن الحرب خدعة، فأعدّوا لها ما يلزم من عدة؟
ينتابني سؤال إنكاري في كل مرة أراجع فيها ملفات رئيس المخابرات المصري السابق صلاح نصر، وتجنيده ما لا يقل عن أربعين فنانة وخمسمائة طالبة، وتحوله للرجل الأول والأخطر والأكثر إثارة للرعب في زمن ناصر… هل بذلت مصر ودول عربية أخرى كل ذلك الجهد لخدمة الأمن القومي، والتوقي من مخاطر العدو، وإعداد القوة للتصدي له بالمعلومات وما يلزم من لزوميات الجاسوسية.
عشرات الأفلام أُنتجت للإشادة بمآثر المخابرات المصرية ونجاحاتها، خاصة فيما بين نكسة 67 وحرب 73.. هي بعض القوة التي توجب إعدادها لمواجهة مفتوحة مع كيان لا يفهم غير لغة القوة، ولا ينجر للسلام إلا مرغمًا، حين تمرغ القوة أنفه فيرضخ ويجنح للسلم. ونستذكر وصية النبي – محمد صلى الله عليه وسلم – لنعيم في غزوة الخندق، حين دعاه للاندساس وسط الأعداء، وأن يخذّلهم عن المسلمين إن استطاع.. وقد فعل.
هل علم العرب وأدركوا بالفعل أن الاستعلامات فن الحيلة، وأن الحرب خدعة، فأعدّوا لها ما يلزم من عدة؟ لست أدري..
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.