شعار قسم مدونات

عن الزمن الذي كان جميلًا

10-رئيس بلدية غزة في عهد جمال عبد الناصر مع مجموعة من الأطفال في مدرسة البلدية في غزة في ستينيات القرن الماضي(ال
هناك دائمًا حنين إلى الماضي باعتباره الزمن الأجمل (الجزيرة)

ثمّة مقولة سائدة، وتكاد تكون موضع إجماعٍ بين الناس في بلادنا، عنوانها: "الزمن الجميل".

فعند ذكْر أيّ شخصيّة عاش صاحبها في الخمسينيّات أو الستينيّات من القرن الماضي على سبيل المثال، أو متابعة أغنية أو مسرحيّة أو فيلم سينمائيّ، أو رؤية صورة لمدينة تعود إلى ذلك الزمن، ترى التعليقات والآراء كلّها تمضي في اتجاه واحد هو الحديث عن ذلك الزمن الجميل الذي مضى، ومقارنته بما نحن عليه اليوم من حياة صعبة، فارغة من كل مضمون جميل، ومن أية لحظة سعادة.

والأمر ذاته يتكرر عند الحديث عن سلوكيات الناس وأخلاقهم وتعاملهم فيما بينهم؛ فأصحاب ذلك الزمن الجميل الذي مضى هم دائمًا حسنو الأخلاق وذوو شهامة وسلوك قويم، مقارنة بأهل الزمن الحاضر، الذين تراجعت عندهم سوية تلك الصفات.

يعتقد كثير من الأوروبيين أن فترة الثلاثينيات من القرن العشرين كانت فترة ذهبية للقارة الأوروبية وعواصمها، يودون لو عاشوا سنواتها وخاصة في مدينة باريس

والواقع أن تلك المقولة وذاك الشعور ينتقلان عبر الزمان مع تقدم عمر أصحاب هذه المقولة، فالحاضر الذي كان سيئًا مع ناسه الذين كانوا ذوي أخلاق غير سوية، سيصبح للجيل اللاحق زمنًا جميلًا لبشر حسني الأخلاق. فالقضية كما تبدو ليست إلا حنينًا لزمن مضى ولن يعود، عاشه جيل بكل سلبياته وإيجابيّاته، وهكذا يتم توارث تلك المقولة عبر الأجيال.

وهناك مجال آخر، لتلك المقولة لا يتعلّق بسنوات عاشها الشخص وأصبحت من الماضي، بل هو النظرة الإيجابية لفترة زمنية سابقة، يتم توصيفها بالفترة الذهبية التي يتمنى كثيرون لو عاشوا فيها، وأوضح مثال لذلك نجده عند الأوروبيين الذين يعتقد كثيرون منهم أن فترة الثلاثينيات من القرن العشرين كانت فترة ذهبية للقارة الأوروبية وعواصمها، يودون لو عاشوا سنواتها وخاصة في مدينة باريس، وقد عبّر عن تلك الفكرة فيلم أميركي طريف اسمه: "منتصف الليل في باريس".

تدور قصة الفيلم حول كاتب أميركي شاب، كان من المتحمسين لفكرة العصر الذهبي ذاك، ويود لو كان ممن شهدوا أيامه، وحين جاء مع زوجته لقضاء شهر عسل في باريس أدهشه أنه أثناء تواجده في مكان محدد بباريس، عند دقات ساعة منتصف الليل، تمر حافلة غريبة الشكل يدعوه من بداخلها للركوب معهم، ليجد نفسه في ذلك الزمن الجميل الذي يحلم به في باريس ثلاثينيات القرن العشرين، مع همنغواي وسلفادور دالي، وسواهم من الفنانين والكتّاب في تلك الفترة.

بل إن قصة حب بدأت تنسج خيوطها مع فتاة من أناس تلك الفترة، لكن ما جعله يغير رأيه في أن يحجز لنفسه حياة في تلك السنوات الذهبية هو ما سمعه من حديث لهؤلاء المنتمين إلى تلك الفترة الزمنية، من أن الزمن الذهبي الذي يودون لو كانوا موجودين فيه إنما هو النصف الثاني من القرن التاسع عشر، مع فيكتور هوغو، والرسام هنري دي لوتريك.. عندها يدرك ذلك الشاب الأميركي أن العصر الذهبي للبشر هو العصر الذي ذهب ومضى ولا يمكن العودة إليه؛ فيقرر أن يعود لحاضره الراهن، ليعيش حياته بكل معطياتها متخليًا عن فكرة الزمن الجميل، تلك التي اكتشف أنها مجرد حنين وتخيّل لا أكثر .

لكنْ، ثمّة سؤالٌ يخطر على البال مفاده: أليس من الممكن أن الزمن الذي ذهب كان أجمل، وأن البشر كانوا وقتها أكثر تمسكًا بالقيم والمبادئ، وأكثر محبّة وتعاونًا فيما بينهم؟

معيار الأفضل والأسوأ هو معيار فردي وليس جماعيًّا، بمعنى أنك ستجد في كل زمان مَن هم حسنو الأخلاق والسلوك، لكنك ستجد في المقابل من هم عكس ذلك تمامًا

ما أظنه أن القضية هي قضية تغير في ظروف وأساليب الحياة، بل وربما تبدل في شكل السلوكيات نفسها أكثر من كون زمن ما أفضل أو أسوأ. فعلى سبيل المثال، كلنا اليوم نتعامل مع وسائل الاتصال الحديثة عبر تقنيات التراسل الإلكتروني ووسائط التواصل الاجتماعي، لكننا عند الحديث عن زمن الرسائل الورقية نسارع إلى القول "إنه الزمن الجميل".. لكننا بالتأكيد لن نكون مستعدين للعودة إلى تلك الطريقة في التراسل، لكنه الحنين إلى زمن نعرف أنه مضى ولن يعود.

الأمر ذاته ربما ينطبق على السلوكيات والتعاملات بين الناس.. بالتأكيد، هناك تغيّر ما أصاب تلك السلوكيات، لكنه تغير لا ينطبق عليه معيار "أحسن أو أسوأ"، بقدر ما هو تغير فرضته الظروف والأحوال المستجدة، ومعيار الأفضل والأسوأ هنا هو معيار فردي وليس جماعيًّا، بمعنى أنك ستجد في كل زمان مَن هم حسنو الأخلاق والسلوك، لكنك ستجد في المقابل من هم عكس ذلك تمامًا، أما ما عدا ذلك فهي تغيرات جماعية تطول الجميع. وقد عبّر الشاعر الفيلسوف أبو العلاء المعري عن الفكرة شعرًا منذ ما يقرب من ألف عام حين قال :

مـن كان يطـلب من أيـامه عجبًا   فلي ثمانـون عامًا لا أرى عـجبا

الـناس كالـناس والأيــام واحــدة   والدهر كالدهر والدنيا لمن غلبا

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان