شعار قسم مدونات

وأن ليس للإنسان إلا ما سعى

عمليات المقاومة
بفضل السعي والتضحية الصادقة تصير تكبيرات المقاومين في غمار الوغى أصواتًا عالية (الجزيرة)

لطالما أطلقتُ عبارة "الجهد المهدور" على كل سعيٍ مني لم أبلغ به مقصدي، ولا جنيت منه ما كنت أرجوه، حاجتي في طوقي لا أجد لها قضاءً، ودعائي في حلقي لا أجد له عند الله استجابة، حتى استوقفتني عبارة للمفكر المربي صاحب الفكر الفذ واللغة الرصينة محمد أحمد الراشد قال فيها: "ليس من الجهد ما يُهدر، وإنما النجاح قد يتأخر"، وإن كان حديثه في سياق الدعوة، إلا أن المرء منا يمكنه أن يسقطه على غيره.

ولطالما فتح بصري في سلاسل كتبه على أفكار ووجهات نظرٍ أبعد مما أبصر وأتفكر؛ فلو نظر المرء منا في أحواله وفي كل جهد بذله ووصفه بالمهدور لأنه لم يؤت ثمره في حينه، لوجد في نفسه شيئًا من ثماره؛ ربما تهذيبًا وتأديبًا، صبرًا ومراعاةً، واستشعارًا عظيمًا لمعيته سبحانه، ولربما نضجًا وأناةً بعيدًا عن اندفاع الصبا وحماسه.. وإن لم تكن في اجتماعها مقصده منها، لكنها صنعة الله!

من دفع ثمن شيء من فكره وجهده وماله ونفسه ووقته؛ أدركه، ومن اختار سببًا وصل إلى مسبَّبه، ومن سلك المقدمات حصل على النتائج.. أما من اختار الهوان؛ فقد هانت غاياته عليه وما حرك في سبيل إدراكها ساكنًا

هي صنعة الله، ليدرك المرء تمام الإدراك أنه مازال يحتاج من العلم الكثير، ومن التهذيب والإصلاح أكثر، وأن لكل شيءٍ -لا بد- ميقاتًا، بعجزه ليس يبصره، لكن الله بحكمته يعلمه، وذاك وعده سبحانه: {والّذين جاهدوا فينا لنهدينَّهم سبلنا}، فمن يمم وجهه تجاه غايةٍ، وسعى لها سعيًا صادقًا وعمل لها دائبًا؛ تمكن منها وأخذ بمقودها، وامتلك ناصيتها، وأتاه مطلبه طيّعًا ذليلًا لا يستعصي عليه، ولا يستنكف منه.

إعلان

ومن دفع ثمن شيء من فكره وجهده وماله ونفسه ووقته؛ أدركه، ومن اختار سببًا وصل إلى مسبَّبه، ومن سلك المقدمات حصل على النتائج.. أما من اختار الهوان؛ فقد هانت غاياته عليه وما حرك في سبيل إدراكها ساكنًا. فلا شيء يدرَك دونما جهد، ولا تُنال بغيةٌ من غير مشقة. قال البيضاوي في تفسير الآية: {والّذين جاهدوا فينا} في حقنا، وإطلاق المجاهدة ليعم جهاد الأعادي الظاهرة والباطنة بأنواعه {لنهدينهم سبلنا} سبل السير إلينا والوصول إلى جنابنا، أو لنزيدنهم هداية إلى سبيل الخير وتوفيقًا لسلوكها. {وإنّ الله لـمع المحسنين} بالنصر والإعانة".

فما يُراق من دماء، وما يُبذل من جهد وكفاح على أراضي غزة، وكل من قدم شيئًا من نفسه وماله ورابط وبذل في سبيل إعلاء كلمة الحق، خاضع لهذه السُّنّة. ثم إن هذه السنة تطلب من الإنسان أن يسعى ويعمل ويجتهد، ويتجنب الكسل والعجز والتولي؛ فالكفاح الصادق لا يضيع، ودماء الشهداء والأحرار المسفوكة ما هي إلا نور يضيء طريق التمكين، ويؤكد أن النصر آتٍ لا محالة، ولو تأخر.

فبفضل السعي والتضحية الصادقة تصير تكبيرات المقاومين في سبيل الله في غمار الوغى أصواتًا عالية لله تعالى؛ ثم إن هذه الحرب ليست نهاية المطاف، بل بداية لمرحلة جديدة من الإصرار والعزيمة، إنها تحمل في طياتها بذور الأمل والحرية التي ستنبت يومًا في قلوب الأجيال القادمة، لتواصل مسيرة النضال من أجل النصر والحرية واستعادة القِبلة المسلوبة.

رحم الله فارس الدعوة الذي رسم بسلاسل كتبه معالم "المنطلق"، وأعان على "العوائق"، وأرشد إلى "المسار" وترك في القلوب شيئًا من "الرقائق"

وإذا كان النصر يتأخر، فإنما هو لحكمة يعلمها الله، ربما ليكون النصر أكمل وأثمن، وحتى يدرك العالم حجم التضحيات والمعاناة التي تحمَّلها أهل فلسطين. إن دماء الشهداء والمقاومين والقادة تحمل وصية للأحياء بأن يظلوا متمسكين بحقوقهم، وهي وصية تركها القائد الشهيد إسماعيل هنية في قوله: "لن نعترف، لن نعترف، لن نعترف بإسرائيل"، وألا يتخلوا عن أرضهم وهويتهم.. فالنصر لا يُمنح لمن يستسلم، بل لمن يقاوم.

إعلان

هي الدنيا هكذا، كادحٌ هو الإنسان فيها حتى في متاعه، إن لم يكن كدحه جهد بدنٍ وكد عملٍ، فهو جهد تفكير وكد مشاعر: {يأيّها الإنسان إنّك كادحٌ إلى ربّك كدحًا فملاقيه}. فحقيقة الكدح هي الأصل في حياة الإنسان، غنيًّا كان أو فقيرًا، مؤمنًا أو كافرًا… ثم نهاية المطاف إلى الله سواء.

ختم العلامة الراشد مقاله بعبارة مختصرة جامعة: "وهو الطريق التربوي: صعبٌ.. طويلٌ.. بطيء.. يسبقنا فيه الأرضيون لوقتٍ، يسقط فيه بعضنا، وتفوتنا بعض المغانم فيه؛ لكنه طريق مأمونٌ، ثابتٌ، مضمونٌ".

رحم الله فارس الدعوة الذي رسم بسلاسل كتبه معالم "المنطلق"، وأعان على "العوائق"، وأرشد إلى "المسار" وترك في القلوب شيئًا من "الرقائق"… ليرينا كيف تكون صناعة الحياة.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان