منذ شهر كامل، استيقظت متأخرة صباح ذاك اليوم الكئيب، فتحت هاتفي فوجدت صورة أبي العبد على "قصة" إحدى الصديقات، وأظن أنها كانت تحوي ما يشير إلى حادثة اغتيال أو فقد أو ما شابه، لكنني لم أستوعب الأمر.. توالت الصور والأخبار العاجلة، ولا أذكر أنني فهمت شيئًا، وربما كنت لا أريد.
كان الأمر صدمة في الحقيقة، في تلك الدقائق الطويلة كنت أحاول لملمة القصة في عقلي، والتفكير في مكان وقوع الحادثة الغادرة. وأثناء استعراض العواصم المحتملة، عادت بي الذاكرة إلى محاولة اغتيال خالد مشعل سنة 1997 في العاصمة الأردنية عمّان، ثم سرت في نفسي لحظة طمأنينة، وشعرت ببصيص أمل، إذ تذكرت ما كتبه "بول ماغوو" في كتابه "اقتل خالد"، حول محاولة الاغتيال، والتفاصيل الدقيقة التي نقلتها مراسلة إذاعة "مونت كارلو الدولية"، حول استنفار السلطات الأردنية، وحصولها بعد ذلك على مكاسب كبيرة أفشلت عملية الاغتيال.
رغم أن الآلاف في عشرات العواصم حول العالم قد ودعوا هنية، فإنه يحز في نفسي ويعز علي أن يمضي شهر على رحيل إسماعيل هنية، ولا يتدفق إلينا سوى مزيد من صور وفيديوهات وثقت لحظات حياة الشيخ العريضة
لم أتتبع أخبار أبي العبد منذ سنوات طويلة، وكانت متابعة تغريدات ابنته سارة عن فقده مؤلمة، وعادت بي سنوات إلى الوراء، كنت مراهقة أتعلق بالأشياء والمعاني والأفكار إلى حدها الأقصى، أضع صورتها وهي طفلة لم تبلغ الخامسة "تتدلع" على أبيها صورة خلفية لأول هاتف جوال اقتنيته. قالت سارة التي لا يمكن أن أتخيلها إلا طفلة صغيرة: "كسرت ظهري يابا".. فانتبهت إلى أن إسماعيل هنية قد استشهد حقًا.
سرعان ما تبددت أوهامي، وزادني خبر وقوع الجريمة في طهران غمًا على غم، وهنا أصبح لدينا مبرر آخر لنكره ذاك المكان، ونحقد على الثورات المضادة ومن يقف وراءها، الذين خنقوا عالمنا الجميل الذي حلمنا به، بعد أن رأينا في ثوراتنا أملًا في تحرير الأرض المغتصبة منذ عشرات السنين، أولئك الذين حاصروا المقاومة فاغتيل قائدها على أرض غريبة لا تحمل ثأرًا ولا تضمد جرحًا.
وبالعودة إلى حادثة عام 1997 في عمّان أجد نفسي أمام مفارقات صعبة؛ فملك الأردن آنذاك، الملك حسين، وموقفه من محاولة الاغتيال كان رائدًا للغاية أيضًا، واستطاع بفضل ذلك الحصول على مضاد السم لإنقاذ مشعل، والمساومة على عملاء الموساد لإطلاق سراح الشيخ أحمد ياسين، الذي كان محكومًا بالسجن مدى الحياة، و15 عامًا إضافيًا.
أظهر الأردن آنذاك قدرته على حماية مصالحه وسيادته، وإمكانية التصرف بحزم في مواجهة التهديدات الخارجية. في المقابل، نرى دولة تهدد من عشرات السنوات بمحو إسرائيل من الخارطة، ونشرت مليشياتها عبر دول الشرق بحجة (فتح الطريق) نحو القدس، لكنها فاجأت العدو قبل الصديق بهشاشة موقفها من حرب الإبادة التي يواجهها حليفها منذ حوالي عام في غزة، ثم في ردة الفعل على قيام دولة الاحتلال باستهداف أحد كبار الضيوف على أراضيها وبدقة متناهية، والتي لم ترقَ لمستوى الحدث بالنسبة لدولة بحجمها.
في أحد الأيام الربيعية الباردة من عام 2004 وبعد أن فتحت أمي الباب عند عودتنا من المدرسة، أخبرتنا أن الشيخ أحمد ياسين قد استشهد. لم أكن لآخذ الأمر على محمل الجد لولا مسحة الحزن التي اعتلت وجهها، ونبرة صوتها المكسور.. كنت حينها في عامي الأخير في المرحلة الابتدائية، ولست على دراية بتفاصيل قضايانا ولا أحداثها اليومية، موقف أمي (غير المعتاد) جعلني أفكر وأبحث مليًا عن سبب تأثرها باغتياله، هل لأنه شيخ على كرسي متحرك؟ ألا يموت عشرات الفلسطينيين؟ ما الذي اختلف اليوم؟ هل لأن أمي تهتم بقضايا وتفاصيل لا تهمني، لم تحاول إقناعي بحزنها؟ استفزني الأمر أكثر لأفهم.
الطفلة ستصبح ثلاثينية، ستغادر (أمان) القرية وتنجو من (رعب) فرع فلسطين لتواجه اضطراب العالم ووحشيته المفرطة، لكن سيكون بإمكانها هذه المرة أن تشارك في صلاة الغائب على الشهيد علنًا مع آلاف يطالبون بالحق لدم القائد الراحل، ومن قبله ومن بعده أكثر من أربعين ألف غزيّ
استشهد أحمد ياسين ورفاقه، وتبعه الدكتور عبد العزيز الرنتيسي، وتوالت عمليات رجال القسام انتقامًا لقادتهم، وقتلوا عشرات الصهاينة ثأرًا. ورغم أن الآلاف في عشرات العواصم حول العالم قد ودعوا هنية، فإنه يحز في نفسي ويعز علي أن يمضي شهر على رحيل إسماعيل هنية، ولا يتدفق إلينا سوى مزيد من صور وفيديوهات وثقت لحظات حياة الشيخ العريضة.
لا أدري لِمَ تعود بي كل تدوينة إلى الذاكرة، وكلما كتبت شيئًا تذكرت أشياء ظننتها ذهبت بلا عودة، لكن يبدو أن الذاكرة لا تخون، وأنا لا أخون ذاكرتي وسأدون كل ما تمدني به.
في سهل ضيق صغير بين جبال السلسلة الشرقية على حدود لبنان، كنت طفلة أتطلع للقاء قادة حماس يومًا ما -كنت أريده قريبًا جدًا-، يغيظني كيف تكون سوريا حليفهم (الأول)، وكيف يلوح لي فرع (فلسطين) الأمني في الوقت نفسه، كلما فكرت في الانخراط في القضية مع إرث عائلي ثقيل عن إرهاب البعث والأسد.
لكن الطفلة ستصبح ثلاثينية، ستغادر (أمان) القرية وتنجو من (رعب) فرع فلسطين لتواجه اضطراب العالم ووحشيته المفرطة، لكن سيكون بإمكانها هذه المرة أن تشارك في صلاة الغائب على الشهيد علنًا مع آلاف يطالبون بالحق لدم القائد الراحل، ومن قبله ومن بعده أكثر من أربعين ألف غزيّ، تُركوا وحدهم؟!
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.