شعار قسم مدونات

ديكارت ومنهجية القراءة الجديدة!

القراءة الرقمية والورقية
هل يمكننا أن نستمر في العيش إذا عملنا بالقاعدة الشكّية الديكارتية؟ (شترستوك)

لا ينفكّ الفلاسفة الكبار عن إبداع مفاهيم جديدة تحدث ثورة على الفكر التقليدي، وتغيّر شروط الحقيقة التي تفسّر ماهية الواقع وكيفية عمله.

في بداية كتاب "مبادئ الفلسفة" (1647)، الذي ألفه الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت (René Descartes)، وقدّمه كهدية للأميرة إليزابيث، يقول ما يلي: "لكي نبحث عن الحقيقة، من الضروري أن نشكّ في كل شيء قدر الإمكان، ولو لمرّة واحدة في الحياة".

الحياة تستمر حتى وإن كنا نمارس هذا النوع من الشك، وقد قدم لنا ديكارت مجموعة من القواعد المنهجية التي تمكننا من الاستمرار والبحث عن الحقيقة، دون أن ينتابنا خوف من الفشل والتعثر

إن المفاهيم التي يبدعها الفلاسفة تشكل الأرضية التي يبدأ منها التفكير الفلسفي، لكن الشك في كل شيء يخسف بهذه الأرضية، فلا يكون للتفكير مرتع ينشط فيه، ما يسبب الانزعاج ويؤدي إلى الاستياء.. والتساؤلات التي يمكن أن نطرحها هنا: هل يمكننا أن نستمر في العيش إذا عملنا بالقاعدة الشكّية الديكارتية؟ وهل يمكننا الاستمرار والتقدّم بوجود الخوف من التعثر والسقوط؟ هل سنصل في الوقت المناسب لتقبيل أطفالنا؟ أي لحظة في هذه الحياة يتحتم علينا فيها أن نشك لمرة واحدة في كل شيء؟

بالطبع، لا ريب عندنا أن الشك الديكارتي ليس شكًا عبثيًا أو فارغًا، بمعنى أن غايته ليست في ذاته، وإنما هو شك منهجي، فالحياة تستمر حتى وإن كنا نمارس هذا النوع من الشك، وقد قدم لنا ديكارت مجموعة من القواعد المنهجية التي تمكننا من الاستمرار والبحث عن الحقيقة، دون أن ينتابنا خوف من الفشل والتعثر.

في الرسالة التي تشكل مقدمة للنسخة الفرنسية من مبادئ الفلسفة، يتوجه ديكارت إلى القراء بمجموعة من النصائح التي ستمكنهم من اتباع خطوات منهجية في قراءة عمله. أولى هذه النصائح أن تكون القراءة الأولى قراءة سطحية، لا تنفذ إلى أغوار النص حيث تكمن الصعوبات، على غرار قراءة رواية (ainsi qu’un roman)، لكي يتسنى للقارئ استجلاء المواضيع التي يتناولها المؤلف.

النصيحة الثانية هي أن تكون القراءة الثانية قراءة تحدَّد فيها المفاهيم والمواضيع الأكثر أهمية، مع التسطير عليها بقلم معين دون الوقوف عند التفاصيل والجزئيات، وهذه الخطوة لا تكتسي أهمية كبيرة؛ فالمهم عند ديكارت هو إعادة القراءة مرة أخرى، لأن كل قراءة جديدة تذلل من مشكلات وصعوبات القراءة السابقة، لذلك فالقراءة في زمن الصعوبة تقتضي ببساطة بذل جهد مضاعف للعودة إلى ما تمّت قراءته مسبقًا، والرجوع إلى ما سبق تحليله ورؤيته، مع كل ما يكتنفه من تعقيدات.

يدعونا ديكارت في مقدمة المبادئ إلى الانكباب على قراءة شيء جديد، والتحلي بالتواضع في سبيل تحصيل معرفة من إعادة القراءة، فليست الحكمة في قراءة كتاب أو ثلاثة أو أربعة، بل الحكمة في قراءة كتاب واحد عدة قراءات، فالعودة إلى النص مرارًا وتكرارًا لا تدل على الانهزام أو على مضيعة الوقت، بل هي الطريقة الوحيدة في فك شيفرة النص المعقدة، فهل هذه مبالغة؟

هل يتوجه إلى جمهور مولع بالروايات، ويتوجس من أن مثل هذه النوعية من الكتب قد تحرمه القدرة على قراءة كتب الفلسفة ككتاب المبادئ؟

بالنسبة إلينا، لطالما كانت العودة إلى النصوص، والاطلاع على ما سبقت قراءته، علامة على التأمل والعمق، لا علامة على النقص والضعف. وفي الحقيقة، إن إصرارنا على التقدم السريع وتجاوز الصعوبات، دون العودة إلى ما سبق، هو الذي يكبلنا ويحدّ من قدرتنا على الفهم الحقيقي والعميق.. إن ديكارت -ببساطة- ينصحنا بالعودة إلى ما قرئ بقصد مراجعته، وهذه النصيحة يجب ألا تنفِّرنا من الكتب وتبعدنا عنها، بل -بالعكس- يجب أن تشجعنا على قراءتها، فالكتاب يخبئ مفاهيم ومضامين كثيرة، لا تظهر كلها من القراءة الأولى، بل تبدأ في الظهور مع كل قراءة جديدة.

السؤال الذي يخامرنا مجددًا هنا هو: أي فئة من القراء يقترح عليها ديكارت هذه الطريقة المميزة في القراءة؟ هل يتوجه إلى جمهور مولع بالروايات، ويتوجس من أن مثل هذه النوعية من الكتب قد تحرمه القدرة على قراءة كتب الفلسفة ككتاب المبادئ؟

من الجميل أن كتاب ديكارت -كما يظهر بوضوح في النسخة اللاتينية- لم يكن مخصصًا لفئة معينة من القراء، كما أنه ليس حكرًا على المثقفين أو المختصين في الفلسفة فقط، ولا حتى المتعلمين في المدارس، وهذا يظهر من نصائحه.. فهي موجّهة إلى الجميع، دون تحديد أو تخصيص.

إن المطلع على بعض أعمال ديكارت، ككتاب "مقالة في المنهج"، سيكتشف أن هذا الفيلسوف يوظف لغة عامية مفهومة وبسيطة، لأنه كان يكتب للناس أجمع، وليس لفئة المثقفين أو الفلاسفة فحسب، إيمانًا منه بأن العقل أعدل قسمة بين الناس، يمنحهم جميعًا القدرة على التمييز بين الخطأ والصواب، واكتساب الحس السليم، إنه ملكة متجذرة في الكيان البشري، لذلك فالناس جميعًا يمكنهم أن يقرؤوا الفلسفة، وهذا ما سيحشد جماهير جديدة لفكر جديد.

هل توجد اليوم كتب تقترح علينا في البداية اتفاقيات مبتكرة لقراءة جديدة لها؟ هل غياب القراءة الجديدة للكتب هو الذي أدى إلى تشويش قراءتنا للعالم؟

لذلك، فعلى القارئ الذي اختار أن يدرس كتب ديكارت -والحديث هنا بالأخص عن كتاب "مبادئ الفلسفة"- أن يضع في باله أن هذا الكتاب ليس مخصصًا، بل هو مجرد رواية بسيطة أو قصة ممتعة، بالرغم من أن بنية النص في هذا الكتاب تختلف كثيرًا عن الأجناس الأدبية المتداولة كالرواية؛ حيث يتكون من فقرات قد تجعل قراءته حتى النهاية تحديًا للقراء غير المعتادين على هذه النوعية من الكتب، وهنا يطالب ديكارت بقراءة جديدة للفلسفة، تستثير الخيال وتوقظ التفكير وتذكي شعلة الإبداع، مع تلافي القراءة التقليدية التخصصية للفلسفة، التي تحشر القارئ في قولبة معقدة من المفاهيم الغامضة، وذلك من أجل خلق قراءة جديدة لكتاب جديد، تتوافق مع النظام الجديد للعالم.

هل يقبل كتاب متخصص في الوقت الحالي أن تتم قراءته كما لو كان رواية؟ وهل توجد اليوم كتب تقترح علينا في البداية اتفاقيات مبتكرة لقراءة جديدة لها؟ هل غياب القراءة الجديدة للكتب هو الذي أدى إلى تشويش قراءتنا للعالم؟

هذه أسئلة تدور حول كيفية تعامل الكتب المتخصصة مع أساليب القراءة الجديدة، وتبحث في إمكانية تقديم أنواع جديدة من الأدب والفلسفة، تتحدى الطرق التقليدية في القراءة، وتتصدى للقراءة المتقادمة للعالم.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان