شعار قسم مدونات

ضربة الضاحية الأخيرة.. ما الذي علينا أن نراجعه؟

#بيروت #لبنان #الضاحية_الجنوبية #جنوب_لبنان
إسرائيل تتحرك في مواجهة حزب الله على أكثر من بعد؛ تفكيك التنظيم وقدراته والحاضنة الشعبية (مواقع التواصل الاجتماعي)

إسرائيل تحاول حسم ملفاتها في مقابل الجميع الآن بمبدأ "مرة واحدة وللأبد"، موجهةً رسالة لكل المنطقة- وبالأخص إيران- بأنها ستهاجم وتهاجم، وأنها لن تتراجع.. علينا أن نقرأ الأمور على هذا النحو، ونتصرف وفقًا لمقتضيات هذه القرائن.

نور في نهاية النفق (ليس فراغًا مرة أخرى)

الفراغ الذي وصلت إليه إسرائيل في غزة، مع عدم قدرتها على تحقيق صورة إنجاز حاسم وسريع، لا تريد إسرائيل إعادته في لبنان، وبالتالي يحاول الإسرائيلي أن يتحرك بشكل مغاير لما حدث في غزة.. لا يبدأ إلا وهو متمكن من قدرته على تحقيق صورة سريعة للنصر؛ لأن ما حدث في غزة من فراغ على مستوى تحقيق صورة قوية للإنجاز أو النصر، يمكن تقديمه للداخل الإسرائيلي والخارج المناصر، يمثل تحديًا يصعب على المجتمع الإسرائيلي تحمله مرة أخرى.

على إسرائيل أن تقدم للداخل والغرب صورة للنصر، تجعل أمامهم نورًا في نهاية النفق.. إننا سنقضي على أعدائنا وبشكل قوي وحاسم وسريع، ثم بعد ذلك مهما طالت الحرب فإن تقبُّل تبعاتها أمر ممكن، فقد حققت إنجازًا تكتيكيًا قد يكون مفتاحًا لانهيار الحزب.

إن هذا الوضع يمكّن إسرائيل – ونتنياهو بالأخص – من ربط كل الأهداف الشخصية والمحلية والإقليمية والدولية مع بعضها، ووضعها على خط واحد، ليجعل الجميع يصطف خلفه أمام الفرصة التي تلوح وتظهر أنها في متناول اليد، ولتكون مرة واحدة وإلى الأبد، وعلى الآخرين أن يكونوا شجعانًا ليلتقطوا الفرصة، ويعكسوا مسار الحرب من الدفاع واستيعاب الصدمة إلى الهجوم، أو يكون التراجع والخسارة الكبيرة.

إن سيناريو توسيع الحرب هذا يعني أن القيادة الإسرائيلية تأخذ إسرائيل – ومِن ورائها المنطقة- إلى حرب طويلة!. لكن لماذا؟

نتنياهو الآن يدافع عن كل شيء، ابتداء من قيمة إسرائيل والمشروع في نظر مواطنيه أو داعميه، وعما تحقق في غزة بالنسبة له، وعن حياته الشخصية. والتوقف الآن يعني تكلفة الفرصة الضائعة

الأهداف القريبة والبعيدة

نتنياهو الآن يدافع عن كل شيء، ابتداء من قيمة إسرائيل والمشروع في نظر مواطنيه أو داعميه، وعما تحقق في غزة بالنسبة له، وعن حياته الشخصية. والتوقف الآن يعني تكلفة الفرصة الضائعة، وهو ما يجعلنا نفكر ألف مرة في كيفية التعامل مع وضع من هذا النوع؛ لأن الوقت ليس في صالح المنطقة.

يخدم هذا التحرك بالنسبة للقيادة الإسرائيلية عدة مسارات، تحاول وضعها على خط واحد، وعدم التوقف قبل تحقيقها.. على مستوى الدائرة الداخلية لإسرائيل، فإن القيادة الإسرائيلية الحالية تسعى إلى:

1- توظيف اللحظة (الصدمة والفرصة):

على الرغم مما مثله السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وما بعده من صدمة لإسرائيل، فإن التحدي بالنسبة للإدارة الإسرائيلية يكمن في كيفية تحويل هذه الصدمة إلى فرصة، للقفز فوق التوترات الداخلية، والتعامل مع أهداف وأجندات لطالما كانت مطروحة ويعوقها البحث عن ظروف مناسبة، مثل: التعامل مع الوجود الفلسطيني، سواء في غزة أو الضفة، أو التعامل مع إيران ووكلائها في الإقليم.

فمن الصعب على القيادة في إسرائيل توفير ظروف من هذا النوع مرة أخرى، تجعل المواطن قادرًا على التضحية والقتال والصبر. إنه أمر من المهم أخذه بالحسبان، وبالتالي تحويل هذه الصدمة إلى فرصة لتغيير جذري في الأوضاع.

يظلّ هذا البعد هاجسًا أمام صانع القرار في إسرائيل في تعامله مع أي سيناريوهات للتهدئة والتوقف، سواء على الجبهات الحرجة، مثل: جبهة غزة أو الضفة، أو الجبهات التي يمكن تأجيلها. والعمل على تحويل التّضحيات التي قدمت وتقدم مع قوة الصدمة ومسار العمل باتجاه يمكن فيه أن تُعزز الالتزام المجتمعي تجاه الحرب والانتقام.

لكن التحدّي الذي على القيادة أن تقوم به هو استعادة الثقة وتعزيزها، سواء من حيث إعادة بناء الثقة في النخب السياسية ومنطلقاتها، بحيث تركز على الالتزام بالمصلحة الوطنية بدلًا من المصالح الشخصية أو الحزبية، أو استعادة الثقة حول ذلك التوازن ما بين قيمة المواطن في مقابل عقيدة سياسية قام عليها المشروع بالأساس، تعتبر أمن المشروع في مقابل أمن المواطن (إسرائيل لا تتخلى عن مواطنيها، وهو ما تفرزه إشكالية ملف الأسرى والتخلي عنهم).

إلى جانب ذلك استعادة الثقة في قدرات الدولة على حماية مواطنيها وردع أعدائها، واستعادة الثقة في المستقبل وحسابات الاقتصاد والأمن؛ حيث بات كثيرون يشعرون أن إسرائيل تتحرك باتجاه دائرة لا تنتهي من الحروب وتراجع الاقتصاد، فهناك غزة، والضفة، ولبنان، والعراق، واليمن، وإيران، ومدى إمكانية أن تستعيد إسرائيل الردع في مقابل أعدائها.

في المقابل، فإن النظر إلى تكلفة الفرصة الضائعة يضع الكثير من المخاوف حول التمسك بالفرصة القائمة؛ فإذا عاد الناس إلى وضع الاستراحة فإن التحرك ضد أي جبهة مرة أخرى في وقت لاحق، والعودة إلى تقديم تضحيات كبيرة، سيكون أمرًا في غاية التعقيد، وإذا توقفت إسرائيل الآن، فإن نمط الردع التقليدي الذي لطالما عملت على بنائه سيضعف إلى حد كبير أو ينهار، وستصبح صورة إسرائيل في الحضيض بدلًا من أن تكون لها صورة قوة تنتصر على أعدائها، وبدلًا من قادة أبطال دافعوا عن وطنهم ستبرز صورة مجرمي حرب فاشلين.

من ناحية أخرى، فإن هذا سيؤدي إلى تراجع الموقف الإسرائيلي إقليميًا، في مقابل تقدم موقف خصومها والأطراف الأخرى في المنطقة، التي تسعى إلى صياغة مستقبلها ومستقبل المنطقة وفق اتجاهات للتكامل الإقليمي: (سواء العلاقات بين القوى فيها، أو منظومة الأمن الإقليمي، أو توزيع الفرص والأدوار الاقتصادية في الإقليم)، ما قد يؤثر على قدرة إسرائيل على صياغة مستقبلها، والقبول بالوضع القائم، إذا أرادت ألا تتجاوزها المنطقة.

تحاول إسرائيل اللعب على مسار سياسي لتجاوز مرحلة حزب الله في لبنان، من خلال استهداف أكبر قدر من القيادات العسكرية والسياسية، لخلق فراغ يمكّن الغرب وإسرائيل من التلاعب بالداخل السياسي اللبناني

إلى جانب ذلك، قد يؤدي هذا إلى تراجع الموقف الإسرائيلي عالميًا، ما قد يؤثر على مكانة المشروع في عيون الحلفاء ويتسبب في فقدان قيمته الإستراتيجية، باعتباره مكلفًا بلا عوائد كافية سواء ماديًا أو معنويًا، بتأثيره على صورة الغرب، أو إستراتيجيًا بتأثيره على الموقف العالمي للغرب في مقابل الشرق، أو في مقابل الجنوب العالمي بشكل عام، في وقت يحتاج فيه الغرب إلى المنطقة بشكل مختلف، للبحث عن بدائل للنمو عبر الشرق الأوسط وأفريقيا، في مقابل النموذج التقليدي الذي اعتمد على روسيا والصين ومنطقه للتقدم على الشرق وغيره.

2- تأمين مساحة التعامل مع التحدي الفلسطيني:

فإذا نظرنا إلى الفرصة في غزة، بالنسبة للاقتصاد والنمو وبالنسبة للأمن والأيديولوجيا، فإنها نموذج لحل مثالي بما توفره من ميزة جيوستراتيجية لإسرائيل (قناة بن غوريون – حقول الغاز في المتوسط – تدعيم موقعه الجيوسترتيجي).

إذ تضعها على مفترق الطرق البحرية من خلال قناة بن غوريون، التي يمكن بسهولة شقها من إيلات إلى المتوسط عبر غزة، بدلًا من تحديات البيئة التي تواجه مسارات أخرى، ومن ناحية أخرى هناك ميزة جيوستراتيجية في مصادر الطاقة في المتوسط، تجعل حصة إسرائيل هي الكبرى، وتجعلها الأقدر تحكمًا في مسارات الطاقة فيه، سواء على حساب مصر، أو لبنان، أو تركيا، ومن ناحية أخرى تُرضي التيارات الدينية، وتساهم في وضع أكثر أمنًا لإسرائيل.

3- ضرب حزب الله وإضعافه: ما يسمح بتحقيق أهداف مرحلية أو أهداف مؤجلة، كإعادة تشكيل المشهد في لبنان. إسرائيل تتحرك في مواجهة حزب الله على أكثر من بعد (تفكيك التنظيم وتفكيك قدراته وتفكيك الحاضنة الشعبية):

  • تفكيك التنظيم: من خلال العمل على ضرب القيادة ونظام الاتصال، وإحداث أكبر قدر من الإرباك في المنظومة.
  • تفكيك القدرات: عبر تحدي استنزاف قدرات حزب الله العسكرية، وشل قدرته على تعويض الذخائر والكوادر عبر تصفيتهم بعمليات الاغتيالات المتسارعة.

وهنا تحاول إسرائيل العمل بأكبر قدر ممكن على إستراتيجية يمكن تسميتها "إسكات المدافع"، ستعمل على شل قدرة حزب الله على ضرب العمق الإسرائيلي، والاستهداف الحساس من خلال الهجمات المكثفة، والرد على مناطق الإطلاق، مع العمل على التمترس بأكبر قدر ممكن، وتحويل التحرك تحت النار لأقصر مدة، لكن في النهاية سيكون حزب الله قد استنفد قدراته، لا كصواريخ فقط وإنما قدرات على الإطلاق.

  • تفكيك الموقف العام والحاضنة الشعبية: على مستوى إدارة الموقف السياسي لحزب الله، والحاضنة الشعبية والعلاقة مع الدولة.

تحاول إسرائيل اللعب على مسار سياسي لتجاوز مرحلة حزب الله في لبنان، من خلال استهداف أكبر قدر من القيادات العسكرية والسياسية، لخلق فراغ يمكّن الغرب وإسرائيل من التلاعب بالداخل السياسي اللبناني بالتهديد والترغيب، يغري أطرافًا مختلفة للتقدم وملء الفراغ مع وعود بالمستقبل الشخصي والحزبي والمستقبل للبنان، نتيجة لعمليات تصفية الكوادر السياسية والرموز، وضرب مكامن قدراته المالية العسكرية والسياسية لمحاصرة الحزب، وبالتالي الإعداد لتحقيق هدف طويل الأمد، هو تغيير المعادلة السياسية في لبنان (تفجير لبنان من الداخل).

4- محاولة تصفية الحسابات الإقليمية والدولية: من خلال تحويل المنطقة إلى مسرح للصراع مع المحور الأوراسي: (روسيا والصين وإيران)، ضمن رؤية لتغيير الموقف العام للغرب في مقابل الشرق، اللذين باتا يتصارعان على الفوز بالشرق الأوسط.

تريد إسرائيل والغرب قلب المعادلة في إيران، وتحويلها من قوة متقدمة للمحور الأوراسي باتجاه الشرق الأوسط (الصين وروسيا)، إلى قوة متقدمة لصالح الغرب في أوراسيا. فبعد إبعاد حزب الله، رأس الحربة المتقدم لإيران، والأقرب من قلب إسرائيل، يمكن فتح جبهة سوريا وتحويلها إلى جبهة استنزاف لإيران وروسيا، وتحويل إيران إلى عبء على روسيا بدلًا من داعم لها، وبالتالي تحويل التقدم الإيراني والروسي في المنطقة إلى عبء لا مكسب.

ومن ناحية أخرى وضع العراق تحت الضغط للانحياز إما إلى إيران وإما إلى الغرب والمنطقة، وبالتالي تحجيم خيارات إيران ومساحات المناورة المتاحة ما بين الشرق والغرب، وما بين التوسع والانكفاء، فما بات يقدمه الارتباط بالمحور الأوراسي والمنطقة لم يعد يقدم لإيران سوى الحرب والاستنزاف، في مقابل ما يمكن أن يكون نتيجة التراجع من المنطقة والانقلاب على أوراسيا.

المقامرة

رغم أن إسرائيل تواجه تحديات في التعامل مع أهدافها هذه بشكل موسع، سواء على مستوى مدى قدرة إسرائيل على الصمود، ومدى قدرتها على تحقيق نجاحات عسكرية على الجبهة الجنوبية "جبهة غزة"، وتحقيق نجاحات في حرب يمكن أن تطول على الجبهة الشمالية، ومدى قدرة إسرائيل على مد هذا المسار ليصل إلى صدام مع إيران أو استنزافها، ومدى قدرتها على فرض هذا الوضع على الإقليم وعلى الغرب.. فإن الفرصة التي توفرها صدمة 7 أكتوبر/تشرين الأول، والتحركات التي تقوم بها إسرائيل لتسويق إنجازات تكتيكية كنور في نهاية النفق لإغراء الداخل والحلفاء، تمهّدان الطريق إلى سيناريوهات من هذا النوع.

إذا لم تنجح محاولات إسرائيل لتوسيع الحرب وتجييش الغرب خلف مشروعها في الشرق الأوسط، فإنها ستكون قد رفعت سقف الطموحات والضغط للحصول على أكبر قدر من المكاسب، وكسب الوقت في معركتها الأساسية على الأقل

تعمل إسرائيل على استخدام تكتيك الخطوة خطوة – أو ما يسمى "إستراتيجية العقب في الباب" – على المستويين: الداخلي والخارجي، لتدفع إلى تقبل الدخول في حرب إقليمية باعتباره تعاملًا مع أمر واقع، وفي المقابل تحاول معالجة الأمور مع القوة الخارجية من خلال تمهيد مسار لإعادة ترتيب المنطقة والنفوذ الإيراني، بشكل يجعلها قادرة على التقدم خطوة وجرّ الآخرين خلفها، وفرض واقع جديد على الإدارة الأميركية، وبالأخص الرئيس القادم، فإما أن تكون إسرائيل منخرطة في حرب بالفعل، ويجب التدخل لنجدتها، أو أن تكون في مسار تحقيق إنجازات يمكن دعمه.

لذلك تتعامل القيادة الإسرائيلية مع المرحلة الحالية في الانتخابات الأميركية كفرصة ذهبية، للحصول على التزامات من المتنافسين على الرئاسة، لأن كل طرف يرغب في الفوز بأصوات وأموال القوى اليهودية في أميركا.

في النهاية، إذا لم تنجح محاولات إسرائيل لتوسيع الحرب وتجييش الغرب خلف مشروعها في الشرق الأوسط، فإنها ستكون قد رفعت سقف الطموحات والضغط للحصول على أكبر قدر من المكاسب، وكسب الوقت في معركتها الأساسية على الأقل، وهي الحرب ضد الفلسطينيين، وسددت ضربات لحزب الله وقدرته على إطلاق الصواريخ، ووجهت رسالة قوية لإيران وكل من يفكر مرة أخرى في الاعتداء على إسرائيل، وبالتالي استعادة الردع، ولن تكون إسرائيل قد خسرت.. ما يجعلها تنظر إلى هذا التوسيع للحرب على أنه مقامرة ينبغي الإقدام عليها.

على الرغم من أن إسرائيل تواجه تحدي التعامل مع اللحظة الحالية في الانتخابات الأميركية، باعتبارها انتخابات حساسة ومتوترة إلى حد كبير، فإن الفرصة أن ما بعد هذا التوتر سيجعل الأميركي في موقف أفضل أمام إسرائيل على أي حال، وهو ما يخشاه الإسرائيليون.

الدخول في مناورة بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي، باعتبارها مقامرة، سيتسبب في خلق حساسيات كبيرة داخل الحزبين، وبعبارة توماس فريدمان: "إن نتنياهو قد يجعل من بايدن آخرَ رئيس مؤيد لإسرائيل في البيت الأبيض". إلى جانب ذلك فإن محاولات استدعاء اليمين والشعبوية في أميركا وتغذيتها تجعل موقع إسرائيل في سياسة الديمقراطيين والتيارات الليبرالية والتقدمية على المحك.

من ناحية أخرى فإن تصور نتنياهو حول إمكانية الاستفادة عبر وصول دونالد ترامب إلى رئاسة الجمهورية، يمكن اعتباره سيناريو غير مضمون النتائج أيضًا.

في النهاية، نحن الآن أمام واقع يقول إن نتنياهو يعلن أنه قادر على فعلها وأن يضع هذه الصورة بين يدي الغرب ليختار إما الرهان على العرب والقوى في المنطقة، أو الرهان على إسرائيل، في مقابل التحديات التي تواجهها القوى في المنطقة وفي الغرب أيضًا من خيارات تفاوضية أمام إسرائيل.

وهو ما سنتناوله في مقال آخر.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان