- "أوعيةٌ مملوءة بالصبر كانت تحملها جدتي وتعطيها لأبي".. تروي لنا صبحية.
لم تدرِ الجدة أم أيمن أن هذه الرؤيا التي أتتها ستكون نذيرًا بكأس الموت والفراق، الذي كان على عائلة ابنها أيمن أن تتجرعه خلال حرب شعواء طالت البشر والشجر والحجر.
ولم تدرِ بأنّ غزة، كل غزة، ستتجرع أوعية أخرى من الصبر، صبر تتفرّع أشواكه، وتستقر في حلوق وقلوب الغزيين الذين أنهكتهم الحرب، كما الجوع والعطش واللجوء.
في العاشر من أكتوبر/تشرين الأول عند الثالثة عصرًا، في بيتهم الكائن شرقي حي التفاح بمدينة غزة، تجمعت صبحية وأمها وأبوها وإخوتها حول مائدة الغداء؛ لتناول طعامهم، يصحبهم القلق والخوف من حرب دقت طبولها منذ ثلاثة أيام.
تروي صبحية: "أبويا حكالنا حاسس حيصير إشي.. جهزوا حالكم حتى نطلع"!. وتضيف أنهم بدؤوا بتجهيز كل ما هو ضروري للخروج من بيتهم الكائن في منطقة شرق غزة الحدودية.. فجأةً، انهالت فوق رؤوسهم أكوام من الركام، وزكمت أنوفهم بالغبار والدخان الذي أفقد غالبيتهم الوعي.
تروي: "لقد قُصف المنزل دون سابق إنذار".
بعد لحظات سمعت صوت طفلين صغيرين يبكيان بشدة، وعندها تذكرت أن ابني أختها الرضيعين قد كانا معها في الغرفة ذاتها، فبدأت بالصراخ على أي شخص لإنقاذ الرضيعين
فزع وصراخ
أما خالد، ابن الستة عشر عامًا، الذي كان على درج منزلهم عند قصف المنزل، فقد وجد نفسه في الشارع مع شدة القصف. وعند رؤيته منزلهم الذي أصبح حجارة مكومة بعضها فوق بعض، وقد صبغ الغبار ملابسه، بدأ يركض فزعًا وجلًا نحو بيت جده الكائن في حي الشعف، ليخبرهم أن جميع من في البيت قد استشهدوا.
تحكي صبحية: غبت عن الوعي، وبعدها استيقظت وإذا بالركام يعلوني، وبدأت بالصراخ "يمّا.. يابا.. ردوا عليا"، وتضيف أن لا أحد قد استجاب لندائها.
تكمل أنها بعد لحظات سمعت صوت طفلين صغيرين يبكيان بشدة، وعندها تذكرت أن ابني أختها الرضيعين قد كانا معها في الغرفة ذاتها، فبدأت بالصراخ على أي شخص لإنقاذ الرضيعين.
رحيل الأم والأب
تضيف صبحية أنهم أخرجوها وإخوتها وأختها أسماء أم الرضيعين من تحت الركام، وخلال عملية إخراجها من تحت الركام سمعت صوتًا يقول:"اطلعوا وسيبوني"، وبعد لحظات تأكدت من نبرة الصوت أنه لأمها التي فارقت الحياة بعد دقائق من تلك الكلمات.
تكمل أن أباها كان بجانب أخيها صلاح، حيث رآه رافعًا يده يتمتم بالشهادتين، وبعدها ارتقى شهيدًا بجانب ابنه الذي تم إنقاذه من تحت الركام.
بعد تجمعهم أمام ركام منزلها بلا أبيهم ولا أمهم، وسيارة الإسعاف لم تصل، رفض أخوها يونس ذو الأعوام العشرة ومدلل أمها وأبيها المغادرة، وأخذ يصرخ باكيًا: "يما، يابا، اطلعوا.. أمي وأبويا.. بدي أمي وأبويا".. أخذوه رغمًا عنه للمشفى الإندونيسي لتلقي العلاج مع إخوته المصابين.
تكمل أن أسماء أختها أم الرضيعين أرادوا بتر قدمها، إلا أنها رفضت وأجّلت عمليتها؛ نظرًا لعدم وجود طواقم طبية تستطيع إجراءها، أما أخوها محمود فقد تمّ ترحيله إلى الجنوب لشح العلاج، ولم يتمكن بعدها من العودة؛ بسبب الحاجز الذي وضعه الاحتلال (حاجز نتساريم)، مقسّمًا غزة إلى شمال وجنوب، مقطعًا أوصال هذه العائلة المكلومة وغيرها آلاف العوائل.
تروي: "لقد دفنوا أبي دون أن أتمكن من وداعه، أما أمي فقد مكثت خمسين يومًا تحت ركام المنزل دون أن نتمكن من إخراجها؛ بسبب القصف المستمر والعشوائي، وعدم توفر المعدات اللازمة لانتشال الشهداء بعد تدمير معظم البنى التحتية في غزة".
تحشرج صوت صبحية، وواصلت دموعها وهي تخبرنا أن أخويها – وبعد يومين من فقدانهما دونما اتصال – قد عادا إليهم بكفنيهما شهيدين مضرجين بالدماء، بعد قنص أحدهما واستهداف الآخر بصاروخ زنانة
التحقا بركب أبنائهما
توقفت قليلًا عن الكلام، ثمّ أكملت والحسرة تقطع صوتها: "أبويا وأمي كانوا دايما يتمنوا الشهادة ونالوها".. وتشير صبحية إلى أن بيتهم قد ودّع ثلاثة من الأبناء، هم: أحمد، وإبراهيم، وعبد العال، عام 2019، بعد استهدافهم بصاروخ أثناء عملهم لمساعدة أبيهم. وتضيف: لقد لحق أبي وأمي بركب إخوتي الشهداء؛ حيث كانت أمي في آخر أيامها تخبرنا باشتياقها لهم، وأنها تراهم بكثرة كأنها، كانت تشعر باقتراب موعد لقائها بهم!. ودائمًا تحكي لنا: "أرى طيفهم حولي".
فراقٌ آخر..
تروي: "وبعد تفرُّقنا على بيوت أقاربنا ألقى الاحتلال المناشير بضرورة إخلاء حي التفاح والدرج حيث كنا، خرجنا خائفين نازحين بلا أب ولا أم نبحث عن مأوى لنا، حيث مكثنا قرب مفترق الصناعة، وهناك عانينا كما كل غزة من المجاعة ونقص الغذاء والماء، فاضطر أخواي محمد وعبد الرحمن للخروج بحثًا عن مصدر رزق لنا".
تحشرج صوت صبحية، وواصلت دموعها وهي تخبرنا أن أخويها – وبعد يومين من فقدانهما دونما اتصال – قد عادا إليهم بكفنيهما شهيدين مضرجين بالدماء، بعد قنص أحدهما واستهداف الآخر بصاروخ زنانة.
حتى لو انتهت الحرب لن ترجع الحياة لطبيعتها، حيث البيوت المهدومة، والشهداء الذين رحلوا وقد تركوا خلفهم شعبًا بكامله ينزف حزنًا وكمدًا
- صبحية
الشهيدان محمد وإبراهيم
وعن حسرتها بفقدان أخيها إبراهيم الحافظ لكتاب الله، وأخيها محمد، تضيف: "صح أنا فخورة إني أخت خمسة شهداء بس بضل جوا قلبي حسرة وحنين إني أشوفهم وأحكي معهم".. ترك أخوها محمد طفلين له يتجرعان كأس اليتم واللجوء، بعد رحيله الذي كان في بحثه عن طعام يسد جوعهم.
تروي: "لقد خرّج أبي ثلاثة من إخوتي حفظة لكتاب الله، وكان يحلم برؤيتي بثوب التخرج، كما يريدني أن أحفظ كتاب الله".. تضيف أنها ستحقق ما تمناه أبوها وأمها وإخوتها.
وتختم صبحية: "بتمنى إنو تخلص الحرب ويرجع الطلاب لتعليمهم وترجع الناس لبيوتها". وتكمل أنه حتى لو انتهت الحرب لن ترجع الحياة لطبيعتها، حيث البيوت المهدومة، والشهداء الذين رحلوا وقد تركوا خلفهم شعبًا بكامله ينزف حزنًا وكمدًا.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.