بعد فتح الأندلس سنة 92هـ، تطلّع المسلمون للنّهوض بفريضة الجهاد، لنشر الإسلام بين الشعوب القاطنة وراء جبال البُرت، الفاصلة بين إسبانيا وفرنسا، على اعتبار أن الإسلام رسالة عالمية، ويجب تبليغها للناس كافة، حتى يشملهم حكم الإسلام، وحضارته الراقية ذات الفكر الرشيد والقيم السامية. وكان موسى بن نصير قد فكر في مواصلة الفتوح في هذه الناحية، ولكن عودته إلى دمشق، في آخر سنة 95هـ، تلبية لدعوة الخليفة الوليد، أوقفت مشروعه.
كان السمح هو أول من بدأ الجهاد في فرنسا، وهو القائد الذي أنشب أول صدام عسكري بين المسلمين والفرنجة في بُسط غاليس (فرنسا)، ودشن طورًا آخر من الصراع بين الإسلام والنصرانية
ومع ذلك، فإن جذوة حماس المسلمين بالأندلس للفتوح ونشر الإسلام في هذه الناحية لم تخمد، بل زادت اشتعالًا بعد استتباب الفتح، واستقرار الأوضاع بالأندلس في عصر الولاة (95 – 138هـ)، الذي حكم الأندلس خلاله أكثر من 15 واليًا، قام عدد منهم بجهاد وفير في فرنسا، خلال فترة الثلثين الأوّلين من هذا العصر، والتي تبلغ حوالي ثلاثين عامًا.
ففي هذه الفترة بلغت قوة المد الإسلامي وراء البُرت – أي في فرنسا – ذروتها، فقد اخترقت الجيوش الإسلامية جبال البُرت مرات عديدة، ومدت بساط الإسلام حتى ليون، وحتى نهر اللوار في وسط فرنسا، وحتى سانس على مقربة من باريس، وقدّم عدد من الولاة كل التضحيات في هذا السبيل، واستشهد عدد منهم في ميدان الجهاد من أجل نشر الإسلام، وليس لأجل المجد الشخصي وتخليد الاسم أو الطموح للغنائم، وهذه الأخيرة تسهب الرواية الغربية في الحديث عنها، وتجعل منها السبب المباشر للفتوحات الإسلامية.
وكان أبرز الذين قاموا بنشاط الفتح الجهادي وراء جبال البُرت، ودوخوا هذه الجهات، أربعة من ولاة الأندلس، هم: السمح بن مالك الخولاني (رمضان 100- ذو الحجة 102هـ)، وعنبسة بن سحيم الكلبي (صفـر 103 – شعبان 107هـ)، وعبد الرحمن الغافقي (صفر 112- رمضان 114هـ)، وعقبة بن الحجاج السلولي (شوال 116- صفر123هـ). وهذا لا يعني أن ولاة الأندلس الآخرين لم يكن لهم دور في هذا الجهاد، ولكن مصادرنا العربية لا تذكر شيئًا حول هذا الأمر.
وكان السمح هو أول من بدأ الجهاد في فرنسا، وهو القائد الذي أنشب أول صدام عسكري بين المسلمين والفرنجة في بُسط غاليس (فرنسا)، ودشن طورًا آخر من الصراع بين الإسلام والنصرانية، امتدّ في هذه البُسط لأكثر من أربعين عامًا، بعد أن كان هذا الصراع قد حُسم لصالح الإسلام في الشام وشمالي أفريقيا والأندلس.
الخولاني، والكلبي، والغافقي، والسلولي، أكفأ ولاة الأندلس وأفضلهم، وأكثرهم إنجازات وفتوحات، سواء في داخل الأندلس أو في فرنسا، وبلغت مدة حكمهم جميعًا زهاء 16 سنة
الصفات والمزايا التي اشتركوا فيها
وكان أولئك الولاة الأربعة (الخولاني، والكلبي، والغافقي، والسلولي)، أكفأ ولاة الأندلس وأفضلهم، وأكثرهم إنجازات وفتوحات، سواء في داخل الأندلس أو في فرنسا، وبلغت مدة حكمهم جميعًا زهاء 16 سنة، رفرفت خلالها راية الإسلام عالية خفاقة في جنوب، وجنوب شرقي فرنسا ووسطها، وخلال هذه السنوات لم يكن ثمة صوت يعلو على صوت الجهاد والفتوحات، وعلى صوت الدعوة إلى الله، وعلى صوت الإدارة والتنظيم.
وكانت ولايتهم جميعًا -عدا الخولاني- في خلافة هشام بن عبد الملك (105-123هـ)، آخر الخلفاء الأمويين الكبار، والذي وصلت الدولة الإسلامية في عهده إلى أقصى امتداداتها، وحكم أكبر دولة في العالم على الإطلاق. وكان أولئك الولاة الأربعة يشتركون في العديد من المزايا والصفات، التي جعلتهم نسيجَ وحدهم، وميّزتهم عن باقي ولاة الأندلس، أبرزها:
- التقوى، والصلاح، وجمال السيرة، والعدل.
- حب الجهاد في سبيل الله، والرغبة في إعلاء كلمة الله، وإقامة شريعته.
- الشجاعة، وقوة العزيمة، والصلابة، والجرأة، والحزم.
- الشخصية القوية ذات الصبغة العسكرية والإدارية.
- الحرص والأمانة على الدولة الإسلامية وأهلها.
- الرفق واللين بأهل الذمة، ومحاولة كسبهم إلى الإسلام.
عبد الرحمن الغافقي، فقد استشهد في معركة بلاط الشهداء في رمضان 114هـ، والتي دارت في وسط فرنسا بين مدينتي تور وبواتييه، بين المسلمين تحت قيادته، وبين الفرنجة تحت قيادة شارل حاجب القصر، بعد أن كان الغافقي قد فتح النصف الجنوبي من فرنسا كله
مواضع استشهادهم وفتوحاتهم
فأما السمح بن مالك الخولاني، فقد استشهد في يوم عرفة 102هـ، في معركة حامية جرت بين المسلمين والفرنجة، في ضواحي مدينة طولوشة (تولوز)، وسط جنوبي فرنسا، بعد أن كان السمح قد فتح مقاطعة سبتمانيا وبسط السيادة الإسلامية عليها، بمدنها السبع الكبيرة، الممتدة على طول ساحل فرنسا الجنوبي، من جبال البُرت حتى مقاطعة البروفانس، وفي مقدمتها نربونة، المدينة المهمة ذات الموقع الإستراتيجي على ساحل البحر المتوسط، والتي أصبحت قاعدة أمامية للمسلمين، لإتمام الفتح الإسلامي لفرنسا.
وأما عنبسة بن سحيم الكلبي، فقد استشهد في جنوب غربي فرنسا، في شعبان 107هـ، بعد أن كان قد استعاد قرقشونة، ونيمة، وبعد أن كان قد فتح حوض الرون كله بجميع مدنه مثل آرل، وأفينيون، وفالانس، وليون، ثم قطع نهر الساؤون، ووصل حتى أوتون في أعالي نهر الرون، ومنها تغلغل حتى مدينة سانس، الواقعة على بعد 30 كيلو مترًا جنوب شرقي باريس، وهي أبعد مسافة وصل إليها قائد مسلم في قلب أوروبا، حيث تبعد سانس 800 كيلو متر عن جبال البُرت.
وأما عبد الرحمن الغافقي، فقد استشهد في معركة بلاط الشهداء في رمضان 114هـ، والتي دارت في وسط فرنسا بين مدينتي تور وبواتييه، بين المسلمين تحت قيادته، وبين الفرنجة تحت قيادة شارل حاجب القصر، بعد أن كان الغافقي قد فتح النصف الجنوبي من فرنسا كله. ولا تزال هذه المعركة تشغل موقعًا عظيمًا في أذهان الأوروبيين، ونسجوا حولها الأساطير، وصوروها معركة أنقذت أوروبا والعالم المسيحي من الإسلام والقرآن، وحفظت جلال روما وبقايا الحضارة القديمة، ووضعت بذور الحضارة الحديثة.
وأما عقبة بن الحجاج السلولي، فقد استشهد في معركة عند مدينة قرقشونة، في صفر 123هـ، بعد أن كان قد فتح جليقية، وأعاد فتح مقاطعتي بروفانس وبورجونيا وليون، ومد جناح المسلمين في إقليم دوفينيه شرقي نهر الرون، حتى وصل إلى بيدمنت في شمالي إيطاليا، وأعاد وضع المسلمين في فرنسا كما كان عليه قبل معركة البلاط، وهو آخر ولاة الأندلس الذين قادوا الجهاد في فرنسا.
وبعدها دخل المسلمون في الأندلس في دوامة الفتن، ففقدوا كل فتوحاتهم في فرنسا، وكان آخرها نربونة سنة 759م.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.