شعار قسم مدونات

المعضلة العراقية مع النشيد الوطني المؤقت

Flag of Iraq waving in the wind against white cloudy blue sky. Iraqi flag.
رحلة تغيير النشيد الوطني العراقي تستمر مع تغير الأنظمة (غيتي)

قصة النشيد الوطني متلازمة غريبة في العراق، رافقت كل تغيير في الحكم، فلا تغيير حدث إلا وقامت السلطات معه بتغيير النشيد الوطني للبلاد، ليبقى هذا النشيد مؤقتًا ولا يعرف الثبات حتى يومنا هذا، والأغرب أن النشيد الحالي هو ذاته نشيد مؤقت منذ 20 عامًا وإلى اليوم، فما هي الحكاية؟

أول نشيد للعراق كان عام 1924، وهو لحنٌ فقط من تلحين الضابط البريطاني الميجر جي، بعد أن فاز لحنه من بين أعمال كثير من الملحّنين، إثر مُسابقة أعلنها الملك فيصل الأول وقتذاك لاختيار اللحن الأنسب

في الواقع، فإن كل نظام يصل إلى دفة الحكم، يريد أن يغير كل شيء، وكأنه يحصر نشأة العراق بفترته، وكأن العراق لم يكن قبله، لذا يطمح إلى أن يُطبّع كل أجنداته على البلاد من خلال حكمه، ومنها النشيد الوطني الذي تغير 5 مرات، بل وحتى علم البلاد أيضًا، فهو الآخر جرى تغييره مع كل تغيير في الحكم ببلاد الرافدين.

أول نشيد للعراق كان عام 1924، وهو لحنٌ فقط من تلحين الضابط البريطاني الميجر جي، بعد أن فاز لحنه من بين أعمال كثير من الملحّنين، إثر مُسابقة أعلنها الملك فيصل الأول وقتذاك لاختيار اللحن الأنسب. فبعد تشكيل الدولة العراقية وتنصيب فيصل الأول ملكًا على البلاد عام 1921، كان لا بدّ من أن يكون للمملكة العراقية الهاشمية موسيقى ملكية مثل دول العالم المتقدمة.

وبالفعل، أُعلنت عام 1924 مسابقة لتلحين أول سلام ملكي، وخُصصت جائزة مالية لمن يفوز بتلك المسابقة، وحينها اشترك عدد من الموسيقيين الأجانب، وفاز بالمسابقة الضابط الإنجليزي، الميجر جي، وألّف قطعة موسيقية على إيقاع "مارش"، وعُزف هذا السلام لأول مرة عام 1924 من قِبل جوق الحرس الملكي في مجلس الأمّة، وفي البلاط الملكي، ومقرّ وزارة الدفاع.

كان النشيد يُعرض على شاشات السينما قبل عرض الأفلام وبعدها، مع ظهور صورة الملك فيصل الأول والعلم العراقي يرفرف وراء صورته، واستمر ذلك حتى انقلاب 14 يوليو/ تموز 1958، وكان السلام الملكي لحنًا فقط من دون كلمات، ليأتي تغييره بالنشيد الثاني، وهو الآخر كان من دون قصيدة أيضًا.. هو لحن فقط، واختير النشيد من قبل حكومة عبد الكريم قاسم، بعد نجاح انقلاب 14 يوليو/ تموز 1958 في إسقاط الحكم الملكي، ومقتل العائلة الملكية في قصر الرحاب ببغداد.

بعد وصول صدام حسين إلى الحكم عام 1979، تم تغيير النشيد الوطني العراقي للمرة الرابعة عام 1981، إذ رأى حسين أنه من الضروري أن يكون للعراق نشيده الوطني الخاص

النشيد الوطني الثاني كان من تلحين المسيحي الراحل لويس زنبقة، وهو العراقي الوحيد الذي وضع لحنًا للنشيد الوطني العراقي إلى يومنا هذا، وهو من خريجي قسم الموسيقى الهوائية في معهد الفنون الجميلة ببغداد أواسط الخمسينيات. واصل زنبقة دراسته الموسيقية في العاصمة النمساوية فيينا، وعند قيام انقلاب 14 يوليو/ تموز 1958، بادر هناك إلى وضع لحن للسلام الجمهوريّ، وتدوينه موزّعًا على كافة أقسام جوق الموسيقى الهوائية، وتسجيله من قِبل جوق موسيقي نمساوي، ثم قدَّم النشيد مرفَقًا برسالة منه إلى عبد الكريم قاسم، عبر سفارة العراق في فيينا، شارحًا فيها الفِكَر والمضامين التي اعتمدَها في صياغة اللحن، وتقرر اعتماده سلامًا وطنيًا لجمهورية العراق حتى عام 1963.

رحلة تغيير النشيد الوطني العراقي تستمر مع تغير الأنظمة، والتغيير الثالث للنشيد حصل بعد انقلاب فبراير/ شباط 1963 على عبد الكريم قاسم ومقتله، وصعود "حزب البعث" إلى دفة حكم العراق، فكان النشيد الثالث "والله زمن يا سلاحي"، الذي جاء به "حزب البعث" عام 1963، وهو ذاته النشيد المصري حينها، واعتمده عبد السلام عارف وفقًا لِما عُرفت بـ"الوحدة العربية" يومها، واستمر النشيد 18 عامًا، حتى عام 1979.

بعد وصول صدام حسين إلى الحكم عام 1979، تم تغيير النشيد الوطني العراقي للمرة الرابعة عام 1981، إذ رأى حسين أنه من الضروري أن يكون للعراق نشيده الوطني الخاص، وأُقيمت مسابقة في دائرة الفنون الموسيقية في وزارة الإعلام العراقية حينذاك، لإصدار نشيد وطني جديد، وقامت الدائرة بتسجيل كافة الأعمال والاستماع إليها من قبل لجنة متخصصة بتقييمها.

ورجّحت النتائج مشاركتَين لضابطَين من الموسيقى العسكرية، هما عبد السلام جميل فرنسو وعبد الرزاق العزاوي، بحكم اختصاصهما بمثل هذا النوع من الموسيقى، لكن الذي حصل هو صدور مرسوم جمهوري من قبل صدام حسين، لاعتماد نشيد "أرض الفراتين"، من كلمات الشاعر العراقي الراحل شفيق الكمالي، وألحان اللبناني وليد غلمية، ليكون النشيد الوطني الرابع للجمهورية العراقية، واستمرّ منذ عام 1981 وحتى عام 2003.

بعد 7 سنوات من التصويت المبدئي لقصيدة الجواهري، وتحديدًا في عام 2019، تحرك "التيار الصدري"، بزعامة مقتدى الصدر، لاختيار نشيد وطني جديد للعراق، واختار قصيدة "سلام عليك على رافديك"، التي غنّاها المطرب العراقي كاظم الساهر

في 2003، وبعد سقوط نظام صدام حسين على يد الاحتلال الأميركي، بدأ البحث عن قصيدة للنشيد الوطني العراقي الخامس، قبل أن يختار رئيس "سلطة الائتلاف المؤقتة" حينها، بول بريمر، نشيد "موطني" كنشيد مؤقت للعراق عام 2004. ونشيد "موطني" قصيدة تعود للشاعر الفلسطيني جمال طوقان، كتبها عام 1934، وهي من تلحين الموسيقار اللبناني محمد فليفل، وظل النشيد مؤقتًا منذ 20 عامًا وإلى اليوم، رغم المحاولات الحكومية والنيابية المتعددة لاختيار نشيد وطني جديد للعراق.

النشيد الوطني العراقي كاد أن يتغير للمرة الخامسة عام 2012، بعد أن اعتمد مجلس النواب العراقي قصيدة "سلام على هضبات العراق"، لشاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري، نَشيدًا وطنيًا للبلاد من حيث المبدأ، قبل أن يغلق الموضوع دون معرفة التفاصيل. وحتى اليوم، يتفق النخبة من العراقيين -أي الطبقة المثقفة- على أن قصيدة "سلام على هضبات العراق"، للجواهري، هي القصيدة المثلى كي تكون نشيدًا وطنيًا للعراق؛ لأن شاعرًا مثل الجواهري يستحق أن تخلّده الدولة باختيار قصيدته نشيدًا لها، ولأنها تذكر كل تضاريس وجغرافيا البلاد المتنوعة ثانيًا.

بعد 7 سنوات من التصويت المبدئي لقصيدة الجواهري، وتحديدًا في عام 2019، تحرك "التيار الصدري"، بزعامة مقتدى الصدر، لاختيار نشيد وطني جديد للعراق، واختار قصيدة "سلام عليك على رافديك"، التي غنّاها المطرب العراقي كاظم الساهر، وسعى لتشريعها رسميًا من قبل مجلس النواب، ولاقى الاختيار الكثير من ردود الفعل الشعبية المرحّبة، حتى إن "التيار الصدري" وجّه دعوة للساهر، ولصاحب القصيدة أسعد الغريري، لزيارة العراق في حال اختيار "سلام عليك" نشيدًا وطنيًا للعراق، ورحّبا بالدعوة.

كاظم الساهر، قال في تصريح للتلفزيون العراقي الرسمي حينها: أتشرف بأن تكون "سلام عليك على رافديك" نشيد العراق الوطني، وأردف: "هذا شرف عظيم"، وقدّم الساهر شكره الى "العراقيين ممن يدعمون اختيار هذا النشيد ورشّحوه"، مضيفًا أن "السعادة لا توصف، وأتمنى أن يتم اختياره"، كما أكد: "أحب هذا النشيد جدًا". كما أنه والشاعر الغريري أبديا استعدادهما لزيارة بغداد مباشرة بعد التصويت على "سلام عليك على رافديك" كنشيد وطني للعراق، وكان من المخطط أن يتم تصوير النشيد في مدينة الموصل، شمالي البلاد، بمشاركة كل أطياف الشعب العراقي، وبوجود الساهر.

بعد تحرك "التيار الصدري"، قام كاظم الساهر بعمل توزيع جديد للأغنية من خلال الفرقة السيمفونية الأوكرانية، استعدادًا منه لاختيارها نشيدًا وطنيًا للعراق، لكن لم يتم اختيارها بعد، رغم مرور 3 أعوام على تبنيها من قِبل "التيار الصدري"، وما منع من اعتماد القصيدة نشيدًا وطنيًا، سيكون السادس بتاريخ العراق لو تم اختيارها، هو اعتراض عدة قوى سياسية على شخصية شاعر القصيدة، أسعد الغريري؛ كونه من شعراء نظام "حزب البعث" المنحل بقيادة صدام حسين.

حالة التشظّي الموجودة في القرار السياسي، والتعددية -التي تجعل كل طرف يرى النشيد الوطني من وجهة نظره- هي السبب في ذلك، إذ يغدو من الصعوبة إرضاء جميع الأطراف والأحزاب، التي تنظر إلى الأمور من مصلحة خاصة لا من مصلحة البلاد العامة

واقعيًا، إن تغيير النشيد الوطني يعود إلى كثرة الانقلابات وتغيّر السياسات، التي كثيرًا ما تخالف الأيديولوجيات التي سبقتها في البلاد، وتعبر عن سياسة الدولة الحالية. لذا فإن تبدل السلطات القائم على الانقلابات والثورات ينسف كل ما قام عليه كل نظام سابق، أما لو كان تبدل السلطات سلميًا فإنه في الغالب سيبقي على النشيد الوطني المتفق عليه.

والغريب أن كل الأنظمة والسلطات السابقة اختارت نشيدًا للبلاد، إلا النظام الحالي القائم منذ 2003، فهو الوحيد الذي لم ينجح بعد باختيار نشيد وطني للبلاد، واكتفى بنشيد بريمر المؤقت، علّه يغيره فيما بعد، فبقي مؤقتًا منذ عقدين من الزمان وإلى اليوم، ولا بوادر تفيد بإمكانية تغييره على المدى القريب ولا حتى البعيد، ولكن لماذا؟

في الأساس، فإن حالة التشظّي الموجودة في القرار السياسي، والتعددية -التي تجعل كل طرف يرى النشيد الوطني من وجهة نظره- هي السبب في ذلك، إذ يغدو من الصعوبة إرضاء جميع الأطراف والأحزاب، التي تنظر إلى الأمور من مصلحة خاصة لا من مصلحة البلاد العامة؛ ففي بلد مثل العراق، بلد حضارة وشعر وأدب، من اليُسر أن يتمخض من خيال شعرائه وفنانيه نشيد وطني للعراق، لكنّ المتصدرين للمشهد السياسي يلهثون خلف مصالحهم فقط، ومصالح البلاد لا يكترثون لها.. كيف لا، وأغلبهم يفضل مذهبيّته وقوميّته كأولوية على حساب الوطن الجامع لكل تلك الفرعيات.

في النهاية، وبحكم التجارب السابقة على امتداد تاريخ العراق الحديث، فإن النشيد الوطني الحالي -غالبًا- لن يستمر بشكل دائم؛ لأن التاريخ يقول إن نشيد الدولة دائمًا ما يكون مؤقتًا، وإن لم ينجح النظام الراهن بتغييره، فإنه في حال تغيير هذا النظام، سيفكّر النظام الذي يليه بنشيد جديد كي يحسب منجزًا له يتفاخر به، وكأنه مكتوب على العراق أن كل شيء فيه لا يعرف الثبات أبدًا.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان