عقب الحربَين العالميتين ظهرت دراسات سوسيولوجية عديدة، تدرس الآثار التي تركتها الحربان والظواهر المصاحبة لها على الأجيال التي نشأت قبيلَهما وأثناءهما في ظلّ ظروف قاسية، وتناولت هذه الدراسات معالم هذه الأجيال وسماتها، وكانت مصطلحاتٌ كـ"جيل ما بين الحربين" و"الجيل الضائع" وغيرهما حاضرة في هذه الدراسات، ما يؤكد ظهور جيل له سماته وصفاته التي تميزه عن غيره من سابق الأجيال، وكان عالم الاجتماع كارل مانهايم واحدًا من أبرز الذين درسوا هذه الظاهرة.
وإذا ما نظرنا إلى الثورة السورية فسنجد أنها عاشت أحداثًا عسكرية واجتماعية وسياسية كبيرة، لها أسبابها وآثارها وظواهرها، واستمرارها منذ 13 سنة له أثر بالغ في صناعة جيل له مميزات وسمات مختلفة عمّن قبله، ما ينذر بتغيرٍ اجتماعي يقف على الأبواب.
كان عماد المشاركين في الثورة السورية بداية انطلاقها 2011 هم الشباب، وكانت أبرز الأعمار صاحبة الدور فيها بين 15 و30 سنة، ومضت سنون الثورة ليصبح عمر الرعيل الأول يتراوح بين 29 و44 سنة
ما معنى الجيل؟
مصطلح "الجيل" يُقصد به متوسط الفترة الزمنية بين ولادة الآباء وولادة أبنائهم، ويُقدَّر حسب طبيعة المجتمعات وثقافاتها في الزواج. وفي المجتمعات المستقرة قد لا تُلاحظ تباينات بين أبناء الجيل الواحد، وذلك أنها تعيش نمطًا متقاربًا خلال نشأة الجيل، لكن التباينات بين الأجيال تكون في المجتمع الذي يعيش ظروفًا طارئة كالحرب والنزوح والهجرة، ينشأ خلالها جزءٌ من أفراد الجيل، بينما ينشأ آخرون في ظل ظروف أكثر استقرارًا من سابقيهم، وهنا يثبت تاريخ التغيرات الاجتماعية أن ذلك يُحدث فوارقَ كبيرة في سمات الأجيال التي تعيشُ ذلك، مقارنةً بغيرها. ولسنا هنا بصدد عرض الآثار السلبية التي تتركها الحرب على الجيل، بقدر ما نصف الملامح العامة للجيل الذي نشأ خلال فترة الثورة السوريّة.
عن أي جيل نتحدّث؟
كان عماد المشاركين في الثورة السورية بداية انطلاقها 2011 هم الشباب، وكانت أبرز الأعمار صاحبة الدور فيها بين 15 و30 سنة، ومضت سنون الثورة ليصبح عمر الرعيل الأول يتراوح بين 29 و44 سنة.
وكان مما يلفت الانتباه ما يُنشر على وسائل التواصل في الأشهر الماضية من صورٍ لمجموعات من مقاتلي الثورة السورية في إدلب ممن يغيرون على ثُكناتٍ لمليشيات النظام، حيث إن أعمار بعض المقاتلين المشاركين في ذلك تُقدر بين 17 و26 سنة، أي أن أعمارهم في بداية الثورة كانت بين 4 سنوات و13 سنة.
وبتقديري، إن الجيل القادم المميز في الثورة السورية، سيكون كثيرٌ من أفراده من أصحاب هذه الأعمار، وأقل أو أكثر منها بقليل.
الجيل الذي نتحدث عنه، والذي وُلد قبيل الثورة السورية، ثم نشأ في ظل أحداثها العصيبة وخلال السنوات العشر الأولى منها خاصة، هو الجيل الذي تحمّل الصعاب، فعاش القصف والدمار كما لم يشهده جيل من قبله
لماذا هذه الفئة العمرية؟
عندما تحدث ابن خلدون عن أعمار الدول من النشأة إلى الانهيار حدد ذلك بثلاثة أجيال، وطبيعة هذه الأجيال هي سر تطور العصبية قوةً وضعفًا منذ نشأة المُلك إلى انهياره، ويقسمها إلى:
- الجيل الأول: ويتسم بالقوة والبأس، وهو من قام بالمغالبة وسعى لتحصيل الملك، ورغم أنه بعد تحصيله سيعيش حالة استقرار فإنه يبقى محافظًا على البسالة والشجاعة، وما عاينه من خشونة العيش قبل تحصيل الملك، فتبقى صفاته هذه مانحة للعصبية معناها؛ فـهم "حدهم مرهف، وجانبهم مرهوب، والناس لهم مغلوبون".
- الجيل الثاني: فهو الذي تربى في أحضان الملك وتأثر بذلك، لكن بقيت فيه بعض الخصال من سابقه، فسَلِمَ بها من الغرق في ترف الحضارة.
- الجيل الثالث: الذي يبلغ فيه الترف غايته، فتسقط به العصبية، وتبدأ الدولة بالضعف إلى أن تنهار.
ومع اختلاف السياق بين نظرية ابن خلدون هذه، وبين ما نحن بصدده، فإنه قد يصح أن ننزل ذلك – ولو بشكل جزئي- على الثورة السورية؛ حيث طول أمدها، وما تعيشه من مراحل مختلفة بين الحدة والهدوء.
لذا، نرى أن الجيل الذي نتحدث عنه، والذي وُلد قبيل الثورة السورية، ثم نشأ في ظل أحداثها العصيبة وخلال السنوات العشر الأولى منها خاصة، هو الجيل الذي تحمّل الصعاب، فعاش القصف والدمار كما لم يشهده جيل من قبله، وشهد حركة النزوح الجماعي التي تترك بصمتها على جدار الذاكرة، وعاش مشقة اللجوء، حيث الخيمة التي لا تقي حر الصيف ولا قرّ الشتاء، وهكذا تكبّد المشاق وعركته المحن، فصنعت منه جيلًا مميزًا عن غيره.
المراحل مرَّ بها هذا الجيل ضمن بيئة ثورية قتالية، نسفت ما بناه المستبدون خلال 40 سنة، لتُغرس في وعي هؤلاء الناشئة قيمٌ ثورية، تميزهم عمن نشؤوا في غير هذه البيئة، حيث سلامة الوعي من مخلفات وترسبات الاستبداد التي تدعو أحيانًا إلى التراجع أو الاستسلام
كيف تشكل وعي أفراد هذا الجيل؟
العامل المميز لأفراد هذه الفئة العمرية هو البيئة التي تشكل بها وعيهم، ويحسن – إن أردنا رسم معالم هذا التشكل – أن نسلك طريق المقاربة النظرية لذلك، ومما يمكن أن نقاربه به نظريات مفهوم الذات في تشكل الاختيار المهني، التي ذهبت إلى أن الأفراد يميلون لتكوين مفاهيم ذاتية محددة تتوضح بمرور الزمن، ومن النظريات الجديرة بالنظر في ذلك نظرية "جينز بيرغ"، الذي حدد خصائص السلوك والاختيار المهني بثلاثة متغيرات أساسية:
- مرحلة الاختيار التحليلي: وتمتد من عمر 4 إلى 11 سنة، إذ يتخيل الطفل نفسه في هذه المرحلة في مهنةٍ مستقبليةٍ ما، من خلال ممارسته الألعاب، ويحاول محاكاة الآخرين وتقليد أدوارهم المهنية.
- مرحلة التجريب وتنقسم إلى:
- مرحلة الميل: (11-12 سنة)، وفيها يحدد الطفل ما يحبه وما لا يحبه من المهن، وما يميل إليه، ويتأثر فيها بالوالدين واهتماماتهم.
- مرحلة القدرة: (12-14 سنة)، وفيها يراعي مستوى قدراته وتباين الاحتياجات لكل مهنة.
- مرحلة القيمة: (15-16 سنة)، وفيها تحدث تغيرات ملحوظة عند المراهق، ويبدأ بالتفكير في مستقبله المهني وحاجته وحاجة المجتمع له، وتدخل فيها الدوافع الإنسانية والاجتماعية.
- مرحلة الانتقال: (17-18 سنة)، ويدرك خلالها ضرورة اتخاذ قرارات عاجلة تتصف بالواقعية حول مهنته المستقبلية، وتحمل مسؤولية هذا القرار، ويفكر بالمكانة الاجتماعية والإعداد اللازم لذلك.
- المرحلة الواقعية: وتمتد من عمر 18 إلى 23 سنة، وتشمل مراحل الاستكشاف والتبلور والتخصص، حيث يتدرج خلالها إلى أن يصل إلى الاستقرار في تحديد مستقبله.
وهذه المراحل مرَّ بها هذا الجيل ضمن بيئة ثورية قتالية، نسفت ما بناه المستبدون خلال 40 سنة، لتُغرس في وعي هؤلاء الناشئة قيمٌ ثورية، تميزهم عمن نشؤوا في غير هذه البيئة، حيث سلامة الوعي من مخلفات وترسبات الاستبداد التي تدعو أحيانًا إلى التراجع أو الاستسلام.
نشأ هذا الجيل في ظل التطور التكنولوجي الهائل ووسائل الإعلام، ونشِط بشكلٍ لم يسبق له مثيل في إرسال واستقبال المعلومة عبرها، بما انعكس على وعيه لأدوات التأثير، وضرورة امتلاكه لها، وكيفية استخدامها
مميزات هذا الجيل
نستطيع أن نجمل مميزات هذا الجيل عن غيره بما يلي:
- أنّه شهد انطلاقة الثورة، والتحول الذي عاشته المنطقة، والمرحلة السلمية التي تمثلت بحشود المظاهرات الزاخرة المطالبة بالحرية والكرامة. وهذا شكّل وعيه وفتح آفاق التصورات عن مفاهيم الحرية والحقوق التي كانت تُقيّدها الأنظمة المستبدة، ومنحَه الجرأة على رفع صوته بالمطالبة بنيل حقوقه.
- أنّه عايش انتقال الثورة السلمية إلى المسلحة، وما تضمنته من انتصارات وانحسارات، وما نتج عن ذلك من ظواهر اجتماعية متعددة. وهذا ساهم بصقل الشخصية، وغرس بذور التحمّل والصبر على المصاعب، إضافة إلى الشعور بقيمة التضحية التي بُذلت لتصل الثورة إلى ما وصلت إليه اليوم.
- أنّ هذا الجيل هو في مرحلة الشباب اليوم، وهو الذي يشغل مباشرة الكثير من الأعمال القتالية، بينما تحوّل كثير من أفراد الجيل الذي انطلق بالثورة إلى مهام إدارية وقيادية، وإسنادٍ لهم.
- نشأ هذا الجيل في ظل التطور التكنولوجي الهائل ووسائل الإعلام، ونشِط بشكلٍ لم يسبق له مثيل في إرسال واستقبال المعلومة عبرها، بما انعكس على وعيه لأدوات التأثير، وضرورة امتلاكه لها، وكيفية استخدامها.
كل ذلك يضع النخب الثورية في الداخل السوري المحرر، ودول المهجر، أمام مسؤوليتهم في أنْ يُولوا أفراد هذا الجيل، وهذه الفئة العمرية منه خاصة، اهتمامًا يليق بما اكتسبوه من مميّزات تؤهلهم ليكونوا صمام أمان الثورة، والمؤتمَنين على حقوق الشعب السوريّ ومستقبله.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.