شعار قسم مدونات

هوس أن تكون مرئيًّا

هذا الصباح-مصور روسي يهجر الكاميرات الحديثة
تسعى للفت نظر من يحبونك ويلاحقونك بالكاميرات أينما ذهبت متحينين ابتسامة منك (الجزيرة)

يفوتنا نحن البشر عادة حين نفكّر بحاجاتنا البشرية المعقدة مفهوم دقيق قد لا ندركه، لأنّ التكنولوجيا الحديثة مشكورة توفره بسخاء أكثر مما يجب أحيانًا.. هو ببساطة أن نكون مرئيين.

فكر معي، أنت مستخدم لإنستغرام مثلًا، جزء أساسي من فكرة التطبيق أن تنشئ لك هوية ما، اسمًا وصورة شخصية وحيزًا صغيرًا لتكتب فيه ما يشبه سيرة ذاتية موجزة. في حالتي مثلًا كانت: "شخص يحاول"، بعد أن وصفتني صديقتي بها قبل أعوام في لحظة لامعة نادرة، شعرت فيها أنها أنا حقًا، فسارعت لرفد هُويتي الإلكترونيّة المفترضة بالجملة الكَنز، قبل أن أعافها وأعاف سيرتها بعد أن صار البشر كلهم أشخاصًا يحاولون، فحذفتها من المواقع وحاولت الحفاظ عليها بيني وبين نفسي نادرة لامعة، كما كانت في رسالة صديقتي يوم ميلاد لي بعيد.

الجماعة لم يكذبوا، أنت فعلًا قصة مبنية على عنصر المشاهدة والتفاعل أساسًا، والحبكة الأساسية فيها هي كيف تكون مرئيًا ومشاهدًا بكل الطرق الممكنة

المهم، لا سيرة ذاتية لي الآن في فيسبوك، وفي إنستغرام أضع في هذا الحيز رقمًا من خانتين هو عمري، لأنه يعجبني، خفيف وصغير يذكرني أني في عز الشباب الذي سأتمنى أن يعود يومًا، كما يقول الشاعر، والذي هو من جملة "المفسدة للمرء أي مفسدة" كما يقول الشاعر أيضًا. يجاور الرقم تمامًا رمز تعبيري ليد تمسك قلمًا، في محاولة أتعبت من بعدها بالتواضع لأقول إني أكتب. لأن "كاتبة" هكذا على وزن "فاعلة" للأنثى و"فاعل" للذكر توحي لي أن فعلًا عظيمًا كبيرًا يحدث، ثم – وهو الأهم والأساس بصراحة – عفتها وعفت سيرتها بعد أن صار البشر كلهم كتابًا أيضًا.

بعد هذا الموجز غير الموجز على الإطلاق، تتضح الفكرة من هذه المنصات أكثر؛ تفنن في كل الطرق التي يمكنك عبرها أن تكون صورة ما، حقيقية.. كاذبة.. مشوهة.. استعراضية.. لا حدَّ لاحتمالات هذه الصورة!. ثم فكر معي بعد إذنك بمصطلح "قصة" أو "story" الأساسي في هذه المواقع أيضًا.. تصور كأسَ شاي رومانسيةً مع شعاع شمس دافئ، ثم تغادر هذه الكأس طاولتك إلى المجلى – إن شربته – وإلى عيون أخرى قد تكون عيون "أصدقائك" إن شربته في فيسبوك، أو عيون "متابعيك" إن شربته في إنستغرام.

الجماعة لم يكذبوا، أنت فعلًا قصة مبنية على عنصر المشاهدة والتفاعل أساسًا، والحبكة الأساسية فيها هي كيف تكون مرئيًا ومشاهدًا بكل الطرق الممكنة. ولنكون صادقين، هذه حاجة بالغة الإلحاح بدأت من الطفولة، حين كنت تسعى بكل الطرق والحركات البريئة أن تلفت نظر شخصين كبيرين يحبانك وينتظران حركتك التالية، ثم نظر آخرين يحبونك أيضًا ويلاحقونك بالكاميرات أينما ذهبت، متحينين ابتسامة منك، أو حركة تضن عليهم بها بشقاوة من يعرف أنه مرغوب.

ما أردته بعد هذا كله ربما هو رسم الشعرة الدقيقة التي تفصل الإنسان عن أن يكون مهرّجًا يسعى ليراه كل أحد، وبين أن يكون قصة جميلة وعزيرة لعيون تراه جميلًا عزيزًا

بعد أن تكبر، تظل هذه الحاجة موجودة، لكنها تبدأ بالانضباط أكثر؛ ستبحث عنها في صورة تقدير لمجهود ترى أنه يجب أن يُرى ويُحتفى به، أو زعل لن يمكنك بعده أن ترمي نفسك على الأرض كما يفعل الأطفال وتبكي بلا توقف، لكنك ستحتاج أن تراه عينٌ ما ثم تطيِّب خاطرك..

الحب نفسه، هذا الشعور الجليل، جليل لأنه في جوهره فعل رؤية أصلًا؛ ترى أحدهم ويراك بكثافة وانفتاح كاملين، ثم تختاره ويختارك، وتُمضيان حياتكما بعد ذلك يحب كل منكما الآخر أكثر لما تريانه، أو تكرهان بعضكما أحيانًا أوتتخاصمان لما تريانه كذلك.. هو فعل رؤية مستمر وعميق، وهو جميل؛ لأنه كذلك، وجرحه عميق لأنه أيضًا كذلك.

استطردت كثيرًا، لكن ما أردته بعد هذا كله ربما هو رسم الشعرة الدقيقة التي تفصل الإنسان عن أن يكون مهرّجًا يسعى ليراه كل أحد، وبين أن يكون قصة جميلة وعزيرة لعيون تراه جميلًا عزيزًا.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان