من مظاهر فساد سلاطين المماليك!

التاريخ الإسلامي - إصلاح دولة المماليك
بالغ المماليك في الفساد والاستهتار وزيادة الضرائب إلى درجة أن بعض المؤرخين فضّلوا حكم الصليبيين على حُكمهم (الجزيرة)

كان من مظاهر فساد كثير من سلاطين المماليك إقبالهم على اللهو والمجون، وإنفاقهم الكثير من أموال الدولة على المغنيات، لا سيما عدد من سلاطين الحقبة التي عاصرها الإمام ابن السبكي، وهي حقبة أبناء الناصر محمد بن قلاوون.

وقد نقلت لنا كتب التأريخ من عجائب ذلك ما لا يكاد يصدق، ويكفي دلالة على عظيم ذلك الفساد المالي أن نقف على أخبار إحدى تلك المغنيات مع بعض السلاطين، وكانت تدعى: اتفاق، حظيت بعشق أولئك السلاطين، فتزوجها ثلاثة منهم على التوالي، وبعدهم تزوجت بأحد وزراء الدولة، وحازت من وراء ذلك كله ثروة كبيرة، وإقطاعات كثيرة، بل لقد أصبحت الإقطاعات والوظائف تُقضى على يديها.

وكان من حال الملك الصالح إسماعيل – أفضل أبناء الناصر بن قلاوون – "أن شغف بها، وأفرط في العطاء وإتلافه الأموال العظيمة لها ولأمثالها، وكان أولئك السلاطين إذا ما صادروا أموال أحد رجالات الدولة؛ فإن حصة اتفاق ومثيلاتها منها تكون بآلاف الدراهم والدنانير.

من أسباب ذلك العجز كثرة الإنعامات والإطلاقات للجواري، ومن يلوذ بهن؛ ما حمل بعض الأمراء للتدخل لإيقاف ذلك، فكان أن صودرت أموال اتفاق ومثيلاتها

فمن ذلك أن السلطان الكامل شعبان بن قلاوون (ت:747هـ) لما صادر أموال نائبه على طرابلس فرقه على اتفاق وغيرها، وفيه زنة سبعين مثقالًا من الجواهر، ومبلغ أربعين ألف درهم، وثلاثة آلاف دينار، وزركش بنحو مئتي ألف درهم، ولـمَّا ولدت له أنفق عليها وعلى مهد ابنها: ستةً وثمانين ألف دينار، وكان هذا حال بقية السلاطين معها؛ فجمعت من خزائن الدولة ثروة طائلة، يكفي دلالة عليها أن عصابة رأسها، التي قام بعملها ثلاثة ملوك من أبناء قلاوون: (الصالح إسماعيل، والكامل شعبان، والمظفر حاجي)، بلغت قيمتها زيادة على مئة ألف دينار مصرية.

ثم لـمَّا صودرت أموالها زمن السلطان المظفر حاجي (ت:748هـ) بلغ ما كانت تملكه "أربعين بذلة مكللة بالجواهر واللآلئ، وثمانين مقنعة، أقلها بمئتي دينار، وأكثرها بألف. ثم أخرجت من القلعة، ثم استعادها المظفر وتزوجها، وأعطاها أضعاف ما كان يعطيها أخواه، وهام بها فأفرط"، ثم لـمَّا تزوجها بعدهم الوزير موفق الدين (ت:796هـ) رتب لها سبعمائة ألف درهم في كل سنة.

إعلان

وقد تسبب ذلك الإنفاق على اتفاق ومثيلاتها المغنيات بتدهور ملحوظ في مالية الدولة، عجزت معه خزانتها عن تحمل التزاماتها بسبب نفقات السلاطين على المغنيات ومجالس لهوهن، فذكر المقريزي (ت:845هـ) أن من أسباب ذلك العجز "كثرة الإنعامات والإطلاقات للخدام والجواري، ومن يلوذ بهم، ومن يعنون به"؛ ما حمل بعض الأمراء للتدخل لإيقاف ذلك، فكان أن صودرت أموال اتفاق ومثيلاتها، وأخرجن من القصور السلطانية؛ ثم ما لبث الحال أن عاد لما كان عليه، وعادت لاتفاق مكانتها.

ولـمَّا كان أولئك السلاطين يدركون أن إنفاق تلك الأموال على المغنيات محلَّ انتقاد كبار رجال الدولة؛ كانوا يرتبون لذلك الاحتياطات اللازمة التي تغطي على إسرافهم وسفههم مع المغنيات، ويعينون على الإدارات المالية من يوافقهم على هواهم ويحفظ سرَّهم، ومن ذلك ما فعله الصالح إسماعيل مع ناظر الخاص جمال الكفاة (ت:745هـ)، حيث أسرَّ له بهوى اتفاق، وزاد من راتبه، ورفع درجته إلى مشير الدولة، فصار جمال ممولًا سخيًا للسلطان، يأتيه بكل نفيس من الجواهر وغيرها سرًا؛ فينعم به السلطان على اتفاق ومثيلاتها.

حاول بعض الأمراء الحد من تلك النفقات التي أثقلت ميزانية الدولة، والفصل بين أموال السلاطين الخاصة، وأموال الدولة العامة؛ فاتفقوا على تحديد نفقة يومية للسلطان قدرت بمئة درهم، وألا يدعوا السلطان يتصرف في المال، ولا ينعم على أحد، ولا يُـمكَّن من شيء يطلبه

وكانت الأموال تنفق أيضًا على ضامنة المغاني، التي توفر مثل أولئك المغنيات للسلاطين وأمرائهم، وقد أعطيت إحداهن في عرس من أعراس السلطان ثمانين ألف درهم سوى بقية المغاني.

وكان في القصور السلطانية العديد من أمثال اتفاق يُنفق عليهن كما يُنفق على اتفاق، ومن أولئك المغنية كيدا، التي خصها السلطان المظفر حاجي في مدة شهرين بخمسة وثلاثين ألف دينار، ومئتين وعشرين ألف درهم، وكان إذا ما صودرت أموال أحد كبار رجال الدولة؛ تُعطى كيدا نصيب الأسد منها كما كانت تعطى اتفاق قبلها، ومن ذلك أنه لـمَّا صادر المظفر حاجي أموالَ النائب يلبغا اليحياوي؛ أنعم على كيدا منها بعشرين ألف درهم؛ سوى الجواهر واللآلئ.

وقد حاول بعض الأمراء الحد من تلك النفقات التي أثقلت ميزانية الدولة، والفصل بين أموال السلاطين الخاصة، وأموال الدولة العامة؛ فاتفقوا على تحديد نفقة يومية للسلطان "قدرت بمئة درهم، وألا يدعوا السلطان يتصرف في المال، ولا ينعم على أحد، ولا يُـمكَّن من شيء يطلبه؛ فمشت الأمور على هذا".

ولكن كان القصد من تلك المحاولة السيطرة على السلطان نفسه، وعزله عن التصرف، أكثر من كونها عملية إصلاحية لفساد مالية الدولة، ولكنهم اتخذوا فساد السلاطين ومجونهم مبررًا لذلك التصرف.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان