شعار قسم مدونات

ما الذي جرى؟.. شاهد من شمال غزة

بركة الشيخ رضوان تمثل أكبر بركة لتجميع مياه الأمطار في النصف الشرقي شمال مدينة غزة
لم تستطع كافة وسائل الإعلام حتى الآن نقل نصف حقيقة ما يجري في شمال غزة (الجزيرة)

في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، جنّ جنون غزة، فجرت غضبها المكبوت في وجه الاحتلال، كل الشعب نادى وصفق وهلّل "الله أكبر".. عبر الرجال، لن نصلي العصر إلا في قُرَانا.

هدأت موجتنا، استعاد الاحتلال توازنه، بدأ العدوان قصفًا في كل مكان، ظننا الأمر كغيره من تصعيدات وحروب، شهرًا أو اثنين أو ثلاثة على أبعد تقدير، نصف عامٍ عند أكثرنا تشاؤمًا.

إسرائيل أقنعت العرب أن غزة خطر إيراني عليكم، وأن نضالها مزعج لكم ولشعوبكم، وأني – أي إسرائيل – حليف أفضل من غزة التي لا يربطكم بها سوى كبشة عروبة وبضع إنسانية وتاريخ يقال إنه مشترك

على الدوام، كان الاحتلال – ومن خلفه أميركا – يحاول السيطرة إعلاميًا على مجريات الأحداث، كانوا يقنعوننا أنهم مشتتون، وليس لديهم خطة معدة مسبقًا لإبادة غزة ونسف القضية، وأن المراحل التي يخوضونها هي وفق الحاجة العسكرية ميدانيًا.

أميركا مارست دورها المعتاد الخبيث، في إظهار أنها تحاول السيطرة على غضب إسرائيل، وتطالب وترفع الوتيرة حتى إننا وصلنا إلى مرحلة اعتقدنا أنها تخشى على دمائنا فعلًا، وأن بايدن أصبح الأب الكبير الهَرِم الذي لم يعد يستطيع السيطرة على أبنائه.

توالت الأحداث، وقبل كل مرحلة كانت أميركا والعالم الغربي يُحضِّرون المسرح لها، حتى استطاع الاحتلال تنفيذ كل مراحله ودخول كل شبر في قطاع غزة.

اقتطعت إسرائيل المساحة الآمنة من على حدود غزة، ثبّتت حاجز نتساريم ووسعته وأمّنته، رصفت محور فيلادلفيا وحولته إلى طوق أبدي لا تمكن إزالته، وفي كل تلك المراحل كنا منشغلين بالتفاوض.. كم أسيرًا نطلق؟ وكم مترًا سيرجع الجند للخلف؟ وكيف سيعود النازحون؟ وكيف سيكون شكل الحكم غدًا؟

إعلان

ما حدث ويحدث، لم تستطع كافة وسائل الإعلام حتى الآن نقل نصف حقيقته أو حتى ربعها.. أناس كرماء -"أبناء عز"، كما يقال بالعامية – لأول مرة في حياتهم يشعرون بالجوع، يذلون بالخيام بلا مأوى، تُقدم لهم طرود غذائية تحتوي على معلبات لم نأكلها في حياتنا.

كل شيء تغير.. ملامحنا، طبيعتنا، ثقافتنا!. لقد كان الثابت الوحيد في هذه الإبادة أنه لا يوجد أي رابط بين العرب أو العالم سوى المصلحة، قضايا الإنسانية والعروبة شعارات لإلهاء الشعوب يستغلها الحكام حسب الحاجة، نحن نموت لأن من مصلحة العالم كله أن يحدث ذلك.

ربما ينجح المخطط، وتبسط إسرائيل سيطرتها، وتجلب الأمن المزيف لها، ربما تندثر حماس وتنتهي، لكن سيخرج من صلب هذا الوطن ألف حركة تحرر جديدة أكثر عنادًا وصلابة، لا خيار أمامكم

أذلة عصرنا كيف جاؤوا وكيف انتشروا؟. إسرائيل أقنعت العرب أن غزة خطر إيراني عليكم، وأن نضالها مزعج لكم ولشعوبكم، وأني – أي إسرائيل – حليف أفضل من غزة التي لا يربطكم بها سوى كبشة عروبة وبضع إنسانية وتاريخ يقال إنه مشترك.. أمور تافهة مقارنة بالمصلحة. وأقنعت الغرب أن المسلمين عينهم عليكم وأنني – أي اسرائيل أيضًا – أدفع ضريبة الدفاع عنكم وعن مشروعكم، فدعونا ننسَ كذبة الضمير، فكلنا يعرف ماضي بعضنا، والحاضر يُكتب الآن.

نُكذِّب أنفسنا ونَكذب على العالم لكي لا نشعر بوحدتنا، نجامل أنظمة عربية هامدة، نجاري أنظمة غربية أكثر من ذئاب، الاستسلام أسهل الخيارات، لكن أعطونا ضمانًا واحدًا لنعيش فوق أرضنا بسلام.

لربما تعتقد إسرائيل أنها بعد هذه الإبادة سترتاح من الفلسطينيين وقضيتهم مدى الحياة، أو على الأقل لمئة عام قادمة أو خمسين، إسرائيل حاولت أن تضاعف إجرامها عما فعلته في مفاصل وجودها من النكبة إلى النكسة وإلى غيرهما. وهي تعتقد أيضًا أنها بقتل وتهجير وتقطيع أطراف أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين ستنحل أزمة الديمغرافيا أيضًا، لتصبح لها الغلبة بالقوة والاقتصاد والأرض والسكان والعمر الافتراضي.

وَهمٌ.. من شمالي غزة، على عطشٍ وجوعٍ وخذلان الجميع، نقول لهذا الاحتلال: وهمٌ إن اعتقدت ذلك، ليست عاطفة، بل قناعة وجودية، ردة فعل طبيعية.. "بلا أرض وبلا وطن سنكون عراة للأبد". ربما ينجح المخطط، وتبسط إسرائيل سيطرتها، وتجلب الأمن المزيف لها، ربما تندثر حماس وتنتهي، لكن سيخرج من صلب هذا الوطن ألف حركة تحرر جديدة أكثر عنادًا وصلابة، لا خيار أمامكم..

أقول ذلك وقد فقدتُ ما فقدت، وأنا أتضور جوعًا الآن في شمالي غزة، وعائلتي في الجنوب تسكن خيمة، وكل أبناء شعبي كذلك، ثكالى ونازحون وجوعى وممزقة قلوبهم.. ومع ذلك، سنعود.. انتظرونا

أنتم على مدى أكثر من 80 عامًا تقتلون وتهجرون وتعذبون، بل وأصبحتم سخيفين، تعيدون ممارسة مخططاتكم ذاتها، قتل ودمار وتهجير، وتحويل حركات التحرر إلى حركات سياسية، وتقليب الشعب على مقاومته، وإعادة احتلال غزة، ولربما ندخل بانتفاضات جديدة، تريدون صنع اتفاق جديد، وجلب الأكثر طوعًا وراحة.. بكل سخافة تتكرر الخطة ذاتها، وعناد أصحاب الأرض يجعلهم لا يملون من العودة إلى البداية.

إعلان

هي هكذا.. مدينة خُلقَت من حديدٍ وعنادٍ فلا تلوموها، جاورت البحر جكرًا ولم تصدأ معادن رجالها، كل جيوش التاريخ غزتها، ولم يبقَ فيها سوى مريديها، تكيد أعداءها كأنها أقوى البلاد وهي طفلة تخشى الهوى يصيبها، في خيام وضعوا أهلها، طوّعوا الدنيا لنضالهم، عادوا وعادت قضيتهم، أعادوا قتلنا وإبادتنا، عدنا مرة أخرى.

وهاهم اليوم يعيدوننا إلى الخيام مرة أخرى.. نعدكم بعد موتنا هذا سنعود، ولكن في المرة القادمة – وليست بعيدة – ستكون عودتنا حصرية ستفوق كل التوقعات، لأن إبادتكم هذه المرة فاقت كل التوقعات!

أقول ذلك وقد فقدتُ ما فقدت، وأنا أتضور جوعًا الآن في شمالي غزة، وعائلتي في الجنوب تسكن خيمة، وكل أبناء شعبي كذلك، ثكالى ونازحون وجوعى وممزقة قلوبهم.. ومع ذلك، سنعود.. انتظرونا.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان