شعار قسم مدونات

جدلية الدين والدولة من خلال كتاب "الإسلام وأصول الحكم"

غلاف الإسلام وأصول الحكم ؛ بحث في الخلافة والحكومة في الإسلام
غلاف كتاب الإسلام وأصول الحكم لعلي عبد الرازق (الجزيرة)

الدين والسياسة جدلية قديمة سال فيها حبر الكتّاب والباحثين ممن يرون ضرورة عقد الصلة بينهما.. آخرون يرون ضرورة الفصل القاطع بين الدين والدولة، ومن أصحاب هذا الرأي نجد الشيخ "علي عبد الرازق"، الناقد لمنظومة الخلافة، والداعي للفصل بين المؤسستين: الشرعية والسياسية.

بعد سنة من إلغاء الخلافة على يد الكماليين ارتفعت الأصوات المطالبة بإعادة إحيائها، وبدأ صراع الملوك العرب على لقب الخليفة، وفي خضم هذا صدر في مصر كتاب "الإسلام وأصول الحكم"، لصاحبه الشيخ الأزهري "علي عبد الرازق"، وهو كتاب صغير الحجم، قدم رؤية جديدة حول نظام الخلافة، حيث اعتبرها "ليست من الدين في شيء".

وأثار الكتاب بعد خروجه إلى النور عاصفة من ردود الفعل المستنكرة، وصلت إلى حد تكفير المؤلف من على منابر المساجد، وفي صفحات الجرائد، وذلك في الربع الثاني من القرن العشرين.

فقد أصبحت مناقشة الكتاب شغلًا شاغلًا للمشايخ والساسة، فكتبت الكتب الناقدة له، أبرزها كتاب: "حقيقة الإسلام وأصول الحكم"، للشيخ "محمد بخيت المطيعي"، وقال فيه: "كل ما قاله في هذا الكتاب قضايا سالبة، وإنكار محض لما أجمع عليه المسلمون أو نص عليه صريحًا في الكتاب العزيز والسنة النبوية"، كما هاجم شخص المؤلف، ووصفه بالكاذب والملحد والكافر، ودافع عن الخلافة قائلًا عنها: "أكمل أنواع الحكومات".

إعلان

كما برز كتاب الفقيه التونسي "محمد الطاهر بن عاشور" بعنوان: "نقد علمي لكتاب الإسلام وأصول الحكم"، واعتبر فكر علي عبد الرازق شبيهًا بأفكار الخوارج، وأن الأدلة الشرعية لا تنحصر في الكتاب والسنة، بل تمتد إلى الإجماع والتواتر، ودافع عن الخلافة معتبرًا إياها خطة حقيقية تجمع الأمة الإسلامية تحت وقايتها بتدبير من مصالحها والذبّ عن حوزتها.

الأطروحة جاءت في مقابل عقل جمعي يرى الخلافة هي الحل وتجب إقامتها، وصراع سياسي فيمن يكون الخليفة، فهي إذًا أطروحة ضد التيار، وردت في سياق حرج، ومن هنا يستمد الكتاب شهرته الكبيرة

أطروحة كتاب "الإسلام وأصول الحكم"

تقول أطروحة الكتاب إن الخلافة الإسلامية ليست من الدين في شيء؛ نشأت سياسية واستمرت بشريعة القوة، فكانت نكبة على الإسلام والمسلمين، إذ يقول: "ذلك الذي يسمى عرشًا لا يرتفع إلا على رؤوس البشر، ولا يستقر إلا على أعناقهم".. ولنا أن نتساءل: لماذا اعتبر علي عبد الرازق الخلافة نوعًا لا دينيًّا، والحال أن من معانيها المشهورة خلافة رسول الله، صلى الله عليه وسلم؟.

من هنا تنبثق خاصية الأطروحة المتمثلة في أن النبي كان نبيًا فقط وليس ملكًا، ولو كانت في تجربته بعض الملامح السياسية، فذلك ما فرضته عليه ظروف دعوته التي تقتضي شيئًا من الزعامة، لكنها ليست من زعامة الملوك؛ فالنبي عند علي عبد الرازق "ما كان إلا رسولًا كإخوانه الخالين من الرسل، وما كان ملكًا ولا مؤسس دولة ولا داعيًا إلى ملك".

وهذا يعني أن الخلافة نشأت في انقطاع عن تجربة النبي، ولم يكن لها صبغة دينية، بل هي زعامة سياسية اقتضتها حاجة العرب لتأسيس دولة تجمعهم.

ومن هذا المنطلق تستمد الأطروحة جرأتها، ليس من حيث إنها جاءت في مخالفة للتراث الإسلامي فقط، بل لأن السياق الذي وردت فيه بعد عام من إلغاء الخلافة، وسط جمهور من المسلمين يرى في الخلافة ضمانًا لبقاء الهوية أمام زحف الاحتلال الغربي، ووسط واقع محلي خاص يهتف للملك فؤاد بلقب الخليفة.

إذًا، فالأطروحة جاءت في مقابل عقل جمعي يرى الخلافة هي الحل وتجب إقامتها، وصراع سياسي فيمن يكون الخليفة، فهي إذًا أطروحة ضد التيار، وردت في سياق حرج، ومن هنا يستمد الكتاب شهرته الكبيرة.

أنكر الكاتب وجود آية صريحة تؤكد وجوب الخلافة، ثم يمر إلى "السنة" فينكر أيضًا وجود أي حديث نبوي يوجب الخلافة، ويرى أن الأحاديث التي استشهد بها خصومه لا تدل على أن النبي فرض إقامة الخلافة، واستعرض أشهر الأحاديث مفترضًا صحتها ومنها: "الأئمة من قريش"

الأدلة المعتمدة في كتاب "الإسلام وأصول الحكم"

لو قلبنا صفحات كتاب "الإسلام وأصول الحكم"، فسنجد أن علي عبد الرازق أخذ الدلائل التي اعتمدها خصومه فيما يخص شرعية الخلافة دليلًا دليلًا وفندها. أول هذه الأدلة "القرآن" فقد نفى علي عبد الرازق وجود نص صريح في القرآن يدل على أن إقامة الخلافة واجب على المسلم؛ إذ يقول: "ولعمري لو كان في الكتاب دليل واحد لما تردد العلماء في التنويه والإشادة به، أو لو كان الكتاب الكريم ما يشبه أن يكون دليلًا على وجوب الإمامة لوجد من أنصار الخلافة المتكلفين – وإنهم كثر- من يحاول أن يتخذ من شبه الدليل دليلًا".

إعلان

وهو يقصد الآيات التي اعتبرها أنصار الخلافة دليلًا، وأشهرها الآية التاسعة والخمسون من سورة النساء: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}، والآية الثالثة والثمانون من السورة ذاتها: {وإذا جاءهم أمرٌ من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلًا}.

وحسب علي عبد الرازق، فإن المقصود بأولي الأمر لا يعني ما فهمه أنصار الخلافة؛ فـ "أولو الأمر" في الآية الأولى يعني – حسب المفسرين – الخلفاء والقضاة وأمراء السرية، وهم في الآية الثانية كبراء الصحابة. وفي الحالتين لا تعني العبارة ضرورة الخلفاء، فهي تحتمل معاني أوسع، ولا يمكن حصرها في معنى واحد.

لذلك أنكر الكاتب وجود آية صريحة تؤكد وجوب الخلافة، ثم يمر إلى "السنة" فينكر أيضًا وجود أي حديث نبوي يوجب الخلافة، ويرى أن الأحاديث التي استشهد بها خصومه لا تدل على أن النبي فرض إقامة الخلافة، واستعرض أشهر الأحاديث مفترضًا صحتها وهي: "الأئمة من قريش" و"من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية".. فحتى إن دلت هذه الأحاديث على الخلافة، فهي لا توجبها ولا تدعو إليها.

أما فيما يخص "الإجماع"، فقد استشهد علي عبد الرازق بأبي بكر الأصم المعتزلي، وببعض الخوارج كالنجدات، لبيان أن الإجماع لم يحدث، وأن هؤلاء لم يروا أن الخلافة واجبة لا شرعًا ولا عقلًا. كما اعتقد أن الإجماع إن وقع فقد فرضته القوة الغاشمة، ولم تكن الخلافة بذلك اختيارية.

لا ننكر أنه كان هناك ملوك ظلمة، لكن لا أحد ينكر أيضًا أنه كان هنالك ملوك صالحون، ولكن عمومًا كان قرار المسلمين مستقلًا، فلا سلطة لأعداء الأمة عليها، وإن الملك ولو كان جائرًا لم يكن عميلًا للغرب

أهم استنتاجات الكتاب

من كل ما أسلفنا نخلص إلى القول إن الخطوط العريضة لكتاب "علي عبد الرازق" تتمثل في إنكار الخلافة وتجريدها من كل قدسية، وعدم اعتبارها مكونًا من العقيدة الإسلامية، بل اعتبرها اختراعًا بشريًّا تاريخيًّا خالصًا، اقتضت وجودها حاجة الزمن، إلى جانب تجريد النبي من كل طابع سياسي، ناقدًا أدلة الفقهاء على الخلافة.

إعلان

وبالتالي، يدعو الشيخ الأزهري بوضوح إلى فصل الدين عن الدولة، واعتماد نظام حكم حديث. يقول في كتابه: "أن يبنوا قواعد ملكهم ونظام حكومتهم على أحدث ما أنتجت العقول البشرية وأمتن ما دلت تجارب الأمم على أنه خير أصول الحكم "

فالخلافة – وفق استنتاجه – لم تكن سوى نكبة على المسلمين، ونظام حكم فاشل قادهم نحو التخلف.

نقد كتاب "الإسلام وأصول الحكم"

ربما لم تخلُ الخلافة من مظاهر العنف، منذ الخلفاء الراشدين حتى تحولها إلى ملك عضوض، من مرحلة "معاوية" حتى سقوط "عبد الحميد الثاني". ولا ننكر أنه كان هناك ملوك ظلمة، لكن لا أحد ينكر أيضًا أنه كان هنالك ملوك صالحون، ولكن عمومًا كان قرار المسلمين مستقلًا، فلا سلطة لأعداء الأمة عليها، وإن الملك ولو كان جائرًا لم يكن عميلًا للغرب.

فلو أقصينا الوجوب الشرعي للخلافة – سواء كانت واجبة أو لا – لا يزال بإمكاننا النظر إليها من حيث هي نظام حكم، يجمع بين الدين والدولة، وسنجد أنها ليست بذلك الشر الذي ادعاه علي عبد الرازق.. لقد نظر إلى ماضيها بعيون الواقع، وسعى لتشويهها انطلاقًا من رغبته في فصل الدين عن الدولة، فافتقر إلى العلمية والموضوعية في بحثه.

وسنوافقه في أن الخلافة قامت على العنف والإكراه، ونجيبه بأن الأمر طبيعي ما دامت أنها نظام سياسي دنيوي كما ادعى، ومن المعلوم أنه لا توجد أنظمة سياسية لم تقم على العنف حتى في أعرق الديمقراطيات. كما لا يمكن لأحد أن ينكر الازدهار الاقتصادي والثقافي والفكري في عهد الخلفاء، حتى أطلق على العرب لقب "سادة العالم".

نقد علي عبد الرازق للخلافة تنقصه الموضوعية والعلمية؛ فهو أقرب للهجو الشرس من أجل إبطال نظام الخلافة في عصره، وطرح نظام بديل هو الفصل بين الدين والدولة، أو ما يعرف بالدولة العلمانية، والقطع مع الدولة الدينية

فالخلافة – بغض النظر عن كونها واجبة شرعًا أو لا – فهي ليست نظام حكم فاشل، وأما العصور المظلمة التي عاشتها فذاك من سُنة التاريخ أن تمر الدول والحضارات بعصور مظلمة وسنين عجاف. والتخلي عن الخلافة ليس الحل لتقدم المسلمين (كما يرى علي عبد الرازق).. لماذا لا نقول إن التخلي عنها كان سببًا في تأخر المسلمين؟ ألم تبدأ معالم تدهورهم منذ ظهرت علامات ضعف الخلافة العثمانية؟

إعلان

لقد كان المسلمون متكتلين تحت راية الإسلام، وتأخرهم سببه الأول هو التفكك.. والإسلام هو الذي كتب اسم العرب بحروف من ذهب على صفحات التاريخ، وذيوع صيتهم اقترن بوجوده. ومن الواضح أن الكاتب أراد السير خلف دعاة التنوير والفكر نحو الدولة اللائكية العلمانية.

نخلص في النهاية إلى القول إن نقد علي عبد الرازق للخلافة تنقصه الموضوعية والعلمية؛ فهو أقرب للهجو الشرس من أجل إبطال نظام الخلافة في عصره، وطرح نظام بديل هو الفصل بين الدين والدولة، أو ما يعرف بالدولة العلمانية، والقطع مع الدولة الدينية.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان