شكّلت القبيلة مدخلًا مهمًّا لفهم الشعر العربي، فالشعر ابن بيئته كما قيل، ويقتضي فهمُ الأدب فهمَ مجموع الظروف الاجتماعية والنفسية التي كانت سببًا وراء إنتاجه.
والمتأمل في الشعر الجاهلي، سيجد أنه ظل خاضعًا لما تقتضيه خصوصيات القبيلة، وينسحب هذا الحكم أيضًا على الأشعار الذاتية التي تغنّى فيها الشعراء بذواتهم، كالشعر الغزلي وشعر الصعاليك، فإن الآخر (الجماعة) حاضر في قصائدهم حضورًا ظاهرًا ومضمرًا، وإن الذي فرض هذه الضّرورة الاجتماعية والفنّية هو السياق الاجتماعي العربي الذي قهره القحط والظلم والقتل، وهي الأسباب التي فرضت على الإنسان الجاهلي التكتّل في جماعات ليحمي نفسه.
لذلك، تأسّس ما يمكن أن نسمّيه "الانتماء القبلي"، وكانت العصبيّة مظهرًا من مظاهر هذا الانتماء، وقد استطاعت هذه العصبية أن تؤثر في وجدان الإنسان الجاهلي تأثيرًا عظيمًا، ولأنّ الشعر ابن بيئته فقد ظهر هذا التأثر ظهورًا جليًا في أشعار الجاهليين.
كان الشاعر وقتئذ عماد القبيلة ومعتمدها، وصحفيّها بلغة العصر؛ لأنها به تزكي ذاتها الجماعية عند باقي أفراد القبيلة، ويكفينا دليلًا عمرو بن كلثوم وتأثير معلقته في ذاتية قومه
وتأسّست العصبية في عمقها على مفهومي "صلة الدم" و"صلة النسب"، واتّخذت أسلوب الثّأر وسيلة للمحافظة على ذاتها، وعلى أفرادها، ومن هنا تأسّست مشروعيتها للإنسان الجاهلي وقتئذ؛ لأنّه آمن بأنه وسيلة بقائه، لذلك انتقلت من مجرد شعور إلى وعي عصابي، ثم ارتقت لتغدو "لاشعورًا جمعيًا" يتحكم في النفس الإنسانية للإنسان الجاهلي، وقد حقّق الشاعر الجاهلي في هذا اللاشعور الجمعي مشروعه الإنساني، كما حقّق فيه ذاتيّته.
ووحدة البيت التي التزم بها دليل يثبت رغبته في استمرار وحدة القبيلة، ولعلّ هذا ما جعل يوسف خليف يؤكد أن "العقد الاجتماعي بين الشاعر والقبيلة تحوّل إلى عقد فنّي جعله معبّرًا عن مشاعرها وتطلّعاتها قبل أن يكون معبّرًا عن مشاعره واتّجاهاته الشّخصية، لذلك اتّجهت الـ"أنا" نحو الـ"نحن" من خلال الفخر، والإشادة بالقيم الجماعية التي تمثّلها القبيلة، فكانت الغاية قبلية، والوسيلة فردية".
لذلك كان الشاعر وقتئذ عماد القبيلة ومعتمدها، وصحفيّها بلغة العصر؛ لأنها به تزكي ذاتها الجماعية عند باقي أفراد القبيلة، ويكفينا دليلًا عمرو بن كلثوم وتأثير معلقته في ذاتية قومه. وهذا الدور المهم الذي لعبه الشاعر، فرض على القبيلة الاحتفاء به، ورفعه مكانًا عليًّا؛ فقد ذكر السيوطي أن "القبيلة في العصر الجاهلي إذا نبغ فيها شاعر، أتت إليها القبائل، وهنّأتها بذلك، وصنعت الأطعمة واجتمع النّساء يلعبن بالمزاهر، كما يصنعن في الأعراس، لأنّه الحامي لأعراضهم، وهو المدافع عن أحسابهم، وهو الذي يخلد مآثرهم، فكأنّ نبوغ شاعر جديد فيهم، يعني ميلادًا جديدًا للقبيلة.
إمساك اللسان عن هجو القوم ضرب من "الذوبان في الذات القبلية"، فكأنه يفضل الموت على هجاء قومه، بل تعرّض للاستهزاء والتنقيص وهو السيّد، فضحك العجائز منه، واجتمع بغايا بني تميم به، والأصل أن السيّد لا يقرب إلا بنات الملوك والأشراف
من اللاشعور الفردي إلى اللاشعور الجمعي
إن المتأمل في سياق قصيدة عبد يغوث الحارثي، سيقف عند تأثير القبيلة في الشعراء؛ فيوم الكُلاب الثاني تجسيد قوي لطبيعة العلاقة التي تجمع الشاعر بالقبيلة، وقد كان شاعرنا عبد يغوث من الرافضين لهذه الحرب، ولكنّ قومه كانوا مصرّين عليها، وغرّهم ضعف بني تميم بعد معركتهم مع الفرس، وخاضوا الحرب مع حلفائهم لكنهم هزموا، وأُسر شاعرنا، وانتظر قومه لينجدوه، وما أنجده أحد، فلمّا لم تفِ القبيلة بالتزاماتها مع فرد من أفرادها، بل مع سيّد من سادتها لامها لومًا شديدًا، ولم يهجها؛ مع علمه بأن بني تميم سيقتلونه، وفاء لما يسمّيه كارل يونغ "اللاشعور الجمعي"؛ لأن هجاء القبيلة هجاء لذاته أيضًا، لذلك اكتفى بلومهم فقال:
جزى الله قومي بالكُلاب ملامةً .. صريـحَهـمُ والآخـرين المَواليـا
وإمساك اللسان عن هجو القوم ضرب من "الذوبان في الذات القبلية"، فكأنه يفضل الموت على هجاء قومه، بل تعرّض للاستهزاء والتنقيص وهو السيّد، فضحك العجائز منه، واجتمع بغايا بني تميم به، والأصل أن السيّد لا يقرب إلا بنات الملوك والأشراف، فقال:
وتضحك مني شَيْخة عبشـميَّة .. كأن لم ترى قبلي أسيرًا يمانيا
وظلّ نساء الحيّ حَوْليَ رُكَّـدا .. يراودْنَ منّي ما تريـد نسـائيـا
ومع ذلك ما تخلّى عن ذاته الجماعية، بل زاد تعلّقه بها، فتذكّر موطنه وأصحابه، وخصّهم بما يميّزهم من صفات، وذكرهم في بيتين كاملين وهو يحتضر، فقال:
فَيَا راكِبـًا إِمَّـا عرضْـتَ فَـبـلِّـغَـنْ .. نَدامـايَ مِن نجـرانَ أَنْ لا تلاقـيا
أَبَا كَـرِبٍ والأَيْـهـَـمَـيْـن كِلَيْـهـمـا .. وقَيْسًا بأعْلَي حضرموت اليمانيا
وتأمّل قوله "فيا راكبًا"، فهو ينادي على أي راكب سيذهب إلى العروض؛ وهي منطقة بين مكّة والمدينة، وقيل هي اليمن، وهذا هو الراجح لأن الشاعر يمني، وانظر إلى الشوق إلى القبيلة كيف أخذه أخذًا وهو في سكرات الموت، حيث تذكّر أصحابه المقربين (نداماي)، وذكرهم في بيت كامل، وذكر كلّ نديم بصفة مميّزة له، وجمعهم جميعًا في صفة واحدة هي "اليمانيا"؛ لأنّ في الانتماء إلى القبيلة فخرًا وقوة وسيادة.
وكان بودّ الشاعر أن يهرب من أرض المعركة كما هرب كثير من قومه، ولكنّه سيّدهم، والسيّد أوّل من يجب أن يحترم قانون القبيلة ونظامها، فلم يهرب وبقي في أرض المعركة يدافع عن قومه، فقال:
ولو شئتُ نَجَّتْني من الخيل نَهْدة .. ترى خلـفها الحُـوَّ الجـياد تَوالـيا
ولـكـنَّـني أحــمي ذِمـار أبـيــكـمُ .. وكان الرماح يختطفْنَ المُحـاميا
فأذاب ذاته في ذات القبيلة مرغمًا؛ لأن هناك "لاشعورًا جمعيًا" يؤثر فيه، وهو عاجز عن صدّه وإن حاول، ونلمس في هذين البيتين محاولة للتجرد من هذه الذات الجماعية؛ لأن قبيلته لم تلتزم بواجباتها تجاه فرد من أفرادها، وتركته أسيرًا عند بني تميم، فلمّا لم تلتزم القبيلة بذلك، كان من المشروع للشاعر أن ينتفض، ويرغم نفسه على التجرّد من ذات القبيلة، ولكنه عجز عن ذلك عجزًا تامًا.
ثم أرغم نفسه على محاولة التجرّد من تلك الذات، فقال في هذا البيت "أبيكم" ولم يقل "أبانا"، وعمد في الأبيات الأخيرة إلى الفخر بنفسه بدل الفخر بقبيلته التي لامها لومًا شديدًا، ولم يهجها للعلّة التي ذكرناها سابقًا.
دلالة العمل الأدبي يجب أن تلتمس في طبيعة البنية اللاشعورية للذات الجمعية، لا في حاجات الذات الفردية كما قال سيغموند فرويد، لذلك عمد يونغ إلى توسيع مفهوم "اللاشعور الفردي" ليغدو لا شعورًا جمعيًا
صراع اللاشعور الجمعي مع غريزة الحياة
إن الفن في جوهره – كما أكّد كارل يونغ – ليس تعبيرًا فرديًا، بل هو تعبير جمعي، إنّه تعبير عن المخزون اللاشعوري للذات الجمعية، وذلك لأن المبدع في إبداعه لا يعبّر عن ذاته، بل يعبر مرغمًا عنه عن "اللاشعور الجمعي"، ولنا في شعراء الجاهلية عبرة في هذا، وفي شعراء قبيلة عذرة أيضًا.
ويعني هذا أن دلالة العمل الأدبي يجب أن تلتمس في طبيعة البنية اللاشعورية للذات الجمعية، لا في حاجات الذات الفردية كما قال سيغموند فرويد، لذلك عمد يونغ إلى توسيع مفهوم "اللاشعور الفردي" ليغدو لا شعورًا جمعيًا. كما أنه رفض التفسير الفرويدي، ورفض كثيرًا من مفاهيمه، كمفهوم الغريزة الجنسية التي رأى فرويد بأنها مصدر الإبداع، ليعوّضها يونغ بغريزة أخرى أكثر شمولًا سمّاها "غريزة الحياة".
والمتأمّل في قصيدتنا هذه سيلاحظ أنّ الشاعر يستميت في الدفاع عن نفسه، ويقدّم حججًا يدفع بها بني تميم إلى العفو عنه، والرّغبة عن قتله، وهذا كلّه تجسيد لما يسميه يونغ "غريزة الحياة" فنسمعه يقول:
أقول وقد شَـدُّوا لساني بِنِسْـعةٍ .. أمعشر تيْـمٍ أطلقوا عن لسانيـا
أمعشر تيْمٍ قد ملكتم فأسْـجِحوا .. فإن أَخـاكم لم يكن من بَـوائِيـا
فـإن تقـتلوني تقـتلوا بِيَ سـيّـدًا .. وإن تُطْلقوني تحْرُبوني بِماليا
إن شاعرنا هنا يلتمس من بني تميم، وهو سيد قومه، وأن يلتمس السيد بهذه الطريقة، خاصة في قوله: "أمعشر تيم قد ملكتم فأسجحوا"، لمذلّة عظيمة له، ولكنّ غريزة الحياة والبقاء أقوى، لذلك طلب منهم أن يطلقوا سراحه ويفدي نفسه بماله كلّه، والمال شرط من شروط السّيادة، وهذا يعني أنّه قبل التّخلي عن سيادته مقابل بقائه حيًا، ولكنّ بني تميم رفضوا طلبه، فسحب التماسه، وشرع في الفخر بنفسه لاسترجاع السّيادة التي فقدها، فافتخر بشجاعته فقال:
وقد علمتْ عِرْسي مُلَيْكة أنّني .. أنا الليـث معْدُوًّا عليَّ وعـاديا
وافتخر بكرمه فقال:
وأنحر للشَّرْب الكرام مَطِيّتي .. وأصْـدَع بين القَيْنتَـيْـن ردائيا
ولا تجتمع الشجاعة مع الكرم إلا في سيّد، فكأنه يقول لبني تميم: مهما فعلتم بي سأظل سيدًا، لذلك كرّر في سبعة أبيات هاتين الخصلتين، وذلك قصد إثباتهما.
وما يلاحظ هنا هو رغبة الشاعر القوية في التجرّد من ذات القبيلة، لذلك عدّد مفاخره بضمير المفرد الذي تكرّر في الأبيات الأخيرة أربعًا وعشرين مرة، وبطّن أبياته تلك لومًا شديدًا لقومه؛ لأنّه أحس أنهم تخلّوا عنه وقت حاجته إليهم، وإن كان دائم الدفاع عنهم، ومصدرًا لفخرهم، لما عرف عنه من شجاعة وكرم وشاعرية أيضًا، فلمّا رأى سوء صنيعهم معه شكّك في كلّ ما فعله من أجلهم، فقال:
كـأنّـيَ لـم أركـب جــوادًا ولـم أقــل .. لِخَـيْـلِيَ كُــرِّي نَفِّـسـي عن رجـاليـا
ولم أَسْــبَأ الــزِّقَّ الــرَّوِيَّ ولم أقــل .. لأِيْسار صِدقٍ: أعْظِموا ضوء نارِيا
والشاعر وإن كان يحاول التجرّد من ذات القبيلة فإنّه مرغم على استحضارها والانصياع إلى قوانينها؛ لأنّ سيادته مشروطة بوجوده داخل هذا الكيان الجماعي.
وعودة إلى غريزة البقاء التي حرّكت الشاعر لنظم هذه القصيدة نقول: إن الإنسان والحيوان يميلان إلى حب البقاء أكثر من ميلهما إلى القيم والمواضعات السائدة، فلا تعجب إن جزمنا أنّ إرادة الحياة عند الشاعر الجاهلي إرادة غير عاقلة، كما يسميها شوبنهاور، ولعلّ هذا ما سوّغ للشاعر تخلّيه عن سيادته وطرقه باب الالتماس؛ لأنّ إرادة الحياة أقوى مما سواها، وما قوله:
أمعشر تيْمٍ قد ملكتم فأسْـجِحوا .. فإن أَخـاكم لم يكن من بَـوائِيـا
فـإن تقـتلوني تقـتلوا بِيَ سـيّـدا .. وإن تُطْلقوني تحْرُبوني بِماليا
إلا دليل يثبت ما قلناه، فشاعرنا مستعدّ للتخلّي عن سيادته شريطة أن يبقى حيّا، وحين علم أن بني تميم عازمون على قتله، والذي دفعهم إلى ذلك هو لاشعورهم الجمعي القائم على مفهوم "الثأر"، شعر بحسرة عظيمة، ومرارة شديدة، فسأل قائلًا:
أَحقًّا عباد الله أنْ لسـتُ سامعًا .. نشيد الرُّعاء المُعْزِبين المَتاليا
ثم شرع في الفخر بنفسه ليطهّرها مما لحقها من معاناة وألم، فذكر شجاعته وختم بكرمه.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.